جستجو
Close this search box.

الكتمان و التقية فى المذاهب الأسلامية

التقية فى القرآن الكريم

قال الله تعالى: (لايتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين، ومن يفعل ذلك فليس من الله فى شىء، الا ان تتقوا منهم تُقاةً ويحذّركم الله نفسه والى الله المصير).[1]

روى المفسرون الاوائل عن عبدالله بن العباس(رضي الله عنه) قال: نهى الله سبحانه المؤمنين أن يلاطفوا الفكار… و أن يُعامِلوا بالغلظة و الجفوة دون الملاطفة و الملاينة، الا ما وقع نادراً لعارض من الامر… «الا ان تتقوا منهم تُقاةً» و التقية: الاظهار باللسان خلاف ما ينطوى عليه القلب; للخوف على النفس، فان كان ما يُبطنه هو الحق كان تقية، و ان كان ما يبطنه باطلاً كان ذلك نفاقاً.

حكى ذلك الشيخ الطوسى (م 460 هـ) فى تفسيره «التبيان» ثم روى عن الحسن بن ابى الحسن البصرى: ان مسيلمة الكذاب اخذ رجلين من اصحاب رسول الله(صلى الله عليه وآله) فقال لاحدهما اتشهد ان محمداً رسول الله؟ قال: نعم، قال: افتشهد انى رسول الله؟ قال: نعم «تقيةً» ثم دعا بالاخر فقال: اتشهد ان محمداً رسول الله؟ قال: نعم فقال له: أفتشهد أنى رسول الله؟ «فسكت» فأعادها عليه مرّتين و قال الرجل: انى اصمّ فضرب عنقه.

فبلغ ذلك «رسولَ الله» فقال: أما المقتول فقد مَضى على صدقه و يقينه و أخذ بفضله فهنيئاً له، و اما الاخر فقد قبل رخصة الله فلا تبعة عليه.

ثم قال الطوسى: فعلى هذا تكون التقية رخصة، و الأفصاح بالحق فضيلة. ثم قال: و ظاهر أخبارنا يدل على انها واجبة، و خلافها خطأ.[2]

و حكى كلامه الشيخ الطبرسى فى تفسيره «مجمع البيان» و نقل عن شيخه المفيد قوله: ان التقية قد تجب احياناً و تكون فرضاً و يتجوز أحياناً من غير وجوب، تكون فى وقت افضل من تركها، و قد يكون تركها افضل و ان كان فاعلها معذوراً و معفواً عنه متفضلاً عليه بترك لومه عليها. ثم قال: و قال اصحابنا: ان التقية عند الضرورة جائزة، و ربما وجبت فيها الضرب من اللطف و الاستصلاح، و لا تجوز إِن علم أو غلب على ظنه أنه استفساد فى الدين و لا تقية فى قتل المؤمن. و الآية دلت على جوازها فى الدين عند الخوف على النفس.[3]

و الآية هى الثامنه و العشرون من سورة آل عمران، و هى السورة التسعون (تقريباً) فى ترتيب النزول، و تسبقها فى المعنى الاية السادسة بعد المئة من سورة النحل السبعون نزولاً قبل الهجرة[4] قوله سبحانه: «انما يفترى الكذب الذين لا يؤمنون بايات الله، و اولئك هم الكاذبون، من كفر بالله من بعد ايمانه، الا من اكره و قلبه مطمئن بالايمان، ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله و لهم عذاب عظيم».

فقد روى المفسرون عن قتادة عن ابن عباس: انّ الآية نزلت فى عمار بن ياسر و ابيه ياسر و امّه سمية عُذّبوا حتى قُتل ابو عمار و امه، و اعطاهم عمار بلسانه ما ارادوا منه من الكفر بمحمد و سبّه فقال قوم: كفر عمّار. و جاء عمار الى رسول الله و هو يبكى، فقال له(صلى الله عليه وآله) ما وراءك؟ قال شرٌّ يا رسول الله، ما تُرِكتُ حتى نِلتُ منك و نُلفت انبياه القارىء الكريم الى مراجعة المصادر فى نهاية المقال.

ذكرتُ آلهتهم بخير! فجعل رسولُ الله(صلى الله عليه وآله) يمسح عينيه و يقول له: ان عادوالك فعُدلهم بما قلت. و نزلت الاية فقال فيه(صلى الله عليه وآله): ان عماراً مُلِىءَ ايماناً من قرنه الى قدمه و اختلط الايمان بلحمه و دمه.[5]

بل كان حكم تجويز التقية بكتمان الايمان سابقاً قبل هذا تقريراً و تصويباً فى الآية الثامنة و العشرين من سورة المؤمن الستين نزولاً[6] قوله سبحانه: (و قال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم ايمانه: اتقتلون رجلاً ان يقول ربى الله، و قد جاءكم بالبينات من ربكم).

و روى الطبرسى فى «مجمع البيان» فى هذه الآية عن ابى عبدالله الصادق(عليه السلام) قال: «التقية تُرس الله فى الارض لأن مؤمن آل فرعون لو أظهر الاسلام لقُتل»;[7] و كانّه(عليه السلام) يشير بهذا التوجيه العقلىّ فى ذليل مقاله الى أنّ حكم تجويز التقية بل ايجابها بكتمان الايمان عند الفراعنة فى عهد تفرعنهم انما هو من حكم العقل قبل النقل بوجوب حفظ النفس و عدم التفريط بها. و دليل العقل حجة باطنة من الخالق فى خلقه قبل حجج النصوص الشرعية المبلَّغة من قِبلِ الانبياء و الرسل. فليس دَور النصوص هنا التاسيس و انّما دوَرها دور المقرّر المصوِّب فحسب، بناء على استقلال العقول فى ادراك القبيح الردىّ و الحسن الجميل، كما عليه مذهب الامام جعفر و سائر اهل البيت(عليهم السلام).

و عليه فحكم تجويز التقية بكتمان الايمان بل ايجابها، ليس ممّا يحتاج فيه الى بيان الاديان و بلاغها، بل العكس هو الصحيح، اى ان جواز مخالفة هذا الحكم العقلى الشرعى بخلاف التقية المؤدى الى القاء النفس فى التهلكة، مما يحتاج الى مجوز، و بعد التسليم بحكم العقل بايجاب التقية انما يكون التخصيص تخصصاً عقلياً و انما يكون التخصيص الشرعى بتنصيص تجويز خلاف التقية ارشاداً الى الحكم العقل فى الواقع و الحقيقة بالتخصيص أو التخصصّ.

فالحكم الدوّلى وجوب الصدق، ولكن حيث يزاحم وجوب الصدق وجوبُ حفظ النفس المحترمة و اهمية هذا يتقدم عند التزاحم فتجب التقية لوجوب حفظ النفس المحترمة. و عليه فلو لم يحصل هذا، اى لم تحصل الغاية من التقية، لم يحصل المجوز الموجب لها، و لذلك فلا تقية فى الدماء اى مع قتل النفس المحترمة. هذا فيما اذا كان التزاحم بين وجوبى الصدق من جهة و حفظ النفس المحترمة من جهة اخرى. اما اذا وقع التزاحم بين جهات ثلاث: وجوب الصدق، و وجوب حفظ النفس المحترمة، و مصلحة للدين راجحة، فاذا كانت ترجح على مصلحة حفظ النفس المحترمة، سقط وجوب حفظ النفس لصالح المصلحة الدينية العليا، كما هو المفروض فى موارد الجهاد، اما اذا كانت المصلحة الدينية لا ترجح مصلحة حفظ النفس المحترمة بل تعادلها كانت التقية رخصة و خلافها كذلك رخصة ايضاً اى تخيرّ المكلف بينهما.

فلعلّ معنى الرخصة فى الحديث النبوى الشريف هو الرخصة بمعنى الجواز بالمعنى الاعم من الاباحة و الوجوب، و لعل هذا هو السرّ فى التعبير بالرخصة ليلائم كلا الحكمين.

و نصّ عليه المرحوم الطباطبائى فى «الميزان» قال: ان صريح الاستثناء فى الآية: «الا من اكره» هو الجواز (ولكن) مع الجواز لامساغ للأباء الذى هو عرض النفس للقتل و القاؤها فى التهلكة، فيجامع هذا الجواز الوجوب، دون الاباحة.[8]

جوامع التقية فى اخبار اهل البيت(عليهم السلام)

و من جوامع ما روى عنهم(عليهم السلام) فى موارد التقية ما رواه الكلينى فى «فروع الكافى» بسنده عن ابى عبدالله الصادق(عليه السلام) قال: للتقية مواضع، من ازالها عن مواضعها لم تستقم له. و تفسير ما يُتّقى: مثل ان يكون قوم سوء ظاهر حكمهم و فعلهم على غير حكم الحق و فعله، فكل شىء يعمل المؤمن بينهم لمكان التقية مما لا يؤدّى الى الفساد فى الدين ـ فانه جائز.[9]

و لعل اكثر خبر عنهم(عليهم السلام) تفسيراً للتقية و تفصيلاً و ارشاداً الى حكم العقل بما ما جاء فى التفسير المنسوب الى الامام الحسن بن على الزكى العسكرى عن ابيه عن آبائه عن امير المؤمنين على(عليه السلام) قال لمخاطبه: ان الله عزوجل يقول: (لا يتخذ المؤمنون الكافرين اولياء من دون المؤمنين، ومن يفعل ذلك فليس من الله فى شىء، الاّ ان تتقوا منهم تقاةً) فقد اذنت لك فى ترك الصلوات المكتوبات ان خشيت على حُشاتك الآفات و العاهات، و فى اظهار البراءة منا ان حملك الوجل عليه…

فانّ اظهارك براءتك منّا عند تقيتّك لا يقدح فينا و لا ينقصنا، و لئن تبرّأت مِنّا ساعة بلسانك و انت موال لنا بجنانك ـ لتُبقى على نفسك روحَها التى بها قِوامها، و مالها الذّى به قيامُها، و جاهَها الذى به تماسُكُها، و تصونَ من عَرفته من اوليائنا و اخواننا، الى ان يُفرّج الله تلك الكربة و تزول به تلك الغمة «فانّ ذلك افضل من ان تتعرّض للهلاك و تنقطع به من عمل الدين و صلاح اخوانك المؤمنين».

و اياك اياك ان تترك التقية التى امرتك بها، فانك شائط بدمك و دم اخوانك، مُعرّض لنعمتك و نعمهم على الزّوال، مذلّ لك و لهم فى ايدى اعداء دين الله و قد امرك الله بإِعزازهم، فانك ان خالفت وصيتى كان ضررُك على نفسك و اخوانك اشدّ من ضرر مُناصب لنا الكافرينا.[10]

و بالجملة: فان السنة و الكتاب الكريم يشهد ان بجواز كتمان الايمان، و لا اشكال فى مشروعيته اجمالاً، و انما الخلاف فى التفاصيل.

التّقية فى فقه اهل السنة

قال فخرالدين الرازى (م 606 هـ) فى تفسيره «مفاتيح الغيب» فقد قال فى تفسير الآية: «اعلم ان للتقية احكاماً كثيرة، و نحن نذكر بعضها:

الحكم الاول: ان التقية انما تكون اذا كان الرجل فى قوم كفار و يخاف منهم على نفسه و ماله، فيداريهم باللسان، و ذلك بان لا يظهر العداوة باللسان، بل يجوز ايضاً ان يُظهر الكلام الموهم للمعيّة و الموالاة، لكن بشرط ان يُضمر خلافه، و ان يعرّض فى كل ما يقول، فانّ التقية تأثيرها فى الظاهر لا فى احوال القلوب.

الحكم الثانى: هو انه لو افصح بالايمان و الحق حيث تجوز له التقية كان ذلك افضل; و دليله ما ذكر فى قصة مسيلمة.

الحكم الثالث: انها انما تجوز فيما يتعلق باظهار الدين او اظهار الموالاة و المعاداة و اما ما يرجع ضرره الى الغير كالقتل و الزنا و غصب الاموال و الشهادة بالزور و قذف المحصنات و اطلاع الكفار على عورات المسلمين فذلك غير جائز البتّة.

الحكم الرابع: ظاهر الاية يدل على ان التقية انما تحلّ مع الكفار الغالبين، الا ان مذهب الشافعى: ان الحالة بين المسلمين اذا شاكلَت الحالة بين المسلمين و المشركين، حلّت التقية، محاماةً على النفس.

الحكم الخامس: التقية جائزة لصَون النفس، اما المال فان كانت الحاجة اليه شديدة احتمل فيه الجواز ايضاً: لقوله(صلى الله عليه وآله) حرمة مال المؤمن كحرمة دمه و لقوله(صلى الله عليه وآله): «من قتل دون ماله فهو شهيد».

الحكم السادس: قال الحسن: التقية جائزة للمؤمنين الى يوم القيامة. و قال مجاهد: انها جازت اول الاسلام لضعف المسلمين و اما بعد قوة دولة الاسلام فلا (و به قال الخوارج) قال الرازى: و الاول اولى، لان دفع الضرر عن النفس واجب بقدر الامكان.[11]

و ماثله السيد رشيد رضا فى تفسيره (المنار) فى تفسير الآية، ماثل الفخر الرازى فى الحكم الاول و الرابع، حيث قال الرضا: ان قُصارى ما تدل عليه هذه الاية: ان للمسلم ان يتقى ما يُتقى من مضرّة الكافرين… و ذلك من باب الرُخص، لاجل الضرورات[12] مع فارق ان الرضا توقف على هذا، بينما مرعن الفخر الرازى عن مذهب الشافعى: ان الحالة بين المسلمين اذا شاكلت الحالة بين المسلمين و المشركين حلت التقية، محاماةً على النفس. والى هذا ايضاً ذهب فقه اهل البيت(عليهم السلام) مع فارق انهم قالوا بوجوب التقية حينئذ لوجوب المحاماة على النفس، الا فيما مر من الاستثناءآت.

فهذه جملة من كلمات علماء الفريقين مفصحةٌ بجواز التقية اجمالاً، معتمدين فى القول بها على الكتاب الكريم و السنة النبوية الشريفة، و سيرة الصحابة و التابعين، و اليك فيما يلى جملة منها: مواقف من تقية الصحابة و التابعين

عرف التقية و عمل بها جملة من الصحابة و التابعين

1. اخرج الحافظ احمد بن عقدة الكوفى المتوفى (فى 333 هـ) فى اول كتاب الولاية باسناده عن سعيد بن المسيب قال: قلت سعد بن ابى وقاص: انّى اريد أن أسالك عن شىء و انى اتقيك (بلفظ التقية) فقال سعد: سل عمّا بد الك فانما انا عمك! قال: فقلت: (اسألك) عن مقام رسول الله(صلى الله عليه وآله) فيكم يوم غديرخم. قال سعد: نعم، قام فينا بالظهيرة فأخذ بيد على بن ابى طالب فقال: من كنت مولاه فعلىّ مولاه.[13]

و بمعناه ما اخرجه احمد بن حنبل فى مسنده[14] باسناده عن عطية العوفى الكوفى قال (انّ ختناً لى حدثنى عن زيد بن ارقم بحديث فى شأن على(عليه السلام) فى يوم غديرخم فاحببت ان اسمعه من زيد) فقلت له: ان ختناً لى حدثنى عنك بحديث فى شأن على فى غديرخم، فانا احبّ ان أسمعه منك فقال: انكم معشر اهل العراق فيكم ما فيكم! فقلت له: لا باس منّى عليك (فلما قلت له ذلك) قال: نعم، كنّا بالجُحفة، فخرج رسول الله(صلى الله عليه وآله) الينا ظهراً و هو اخذ بعضد على فقال: يا ايها الناس، الستم تعلمون انّى اولى بالمؤمنين من انفسهم؟ قالوا: بلى قال: فمن كنت مولاه فعلى مولاه.[15]

و بمعناه ما رواه ابن الاثير فى «اسد الغابة» بالاسناد عن عبدالله بن العلا قال سمعت الزهرى يحدّث باسناده عن جندع بن عمرو بن مازن الانصارى قال: سمعت النبى(صلى الله عليه وآله)يقول: من كذب علىّ متعمداً فليتبواً مقعده من النار و سمعته يقول و قد انصرف من حجة الوداع، فلما نزل فى غديرخم قام فى الناس خطيباً و اخذ بيد (علىٍّ و قال: من كنت مولاه فهذا وليّه، اللهم و آل من والاه و عاد من عاداه. ثم قال الراوى عبدالله بن العلا: فقلت للزهرى لا تحدث بهذا: بالشام و انت تسمع مل أذنيك سبَّ علىٍّ؟ فقال: و اللهِ انّ عندى من فضائل علىٍّ ما لو تحدثت بها لَقُتِلت.[16]

و حيث كان الامام ابو جعفر محمد بن على الباقر(عليه السلام) يدعو شيعته الى العمل بالتقية، و اشتهر شاعره الكميت بن زيد الاسدى بتشيّعه فى شعره حتى بلغ ذلك الى الخليفة الاموى الوليد بن عبدالملك المروانى فامر بالقبض عليه فاختفى. فروى ابوالفرج الاصفهانى فى «الأغانى» انه فى حين اختفائه أرسل ابن اخيه وردين زيد الاسدى الى الامام ابى جعفر الباقر(عليه السلام) ليقول له: ان الكميت ارسلنى اليك و قد صنع بنفسه ما صنع، افتأذن له ان يمدح بنى امية؟ قال زيد: فقلت لابى جعفر(عليه السلام)ذلك فقال: نعم، هو فى حلّ فليقل ما شاء فلما ابلغه ذلك نظم لهم قصيدته الرائيّة التى يقول فيها: فالان صرت الى امية و الأمور الى مصائر… .

ثم دخل بعد ذلك على ابى جعفر(عليه السلام) فقال له: يا كميت انت القائل: فالان صرتُ…؟ قال: نعم، قد قلت، لا و الله ما اردت به الاّ الدنيا، و لقد عرفت فضلكم. فقال(عليه السلام): اما ان قلت ذلك فان التقية لتحلّ.[17]

و لئن كان فى الصدر الاول من الصحابة و التابعين ـ حديث الغدير ممّا يتقى فيه بعضهم بعضاً فقد تمادى الامر بعدهم حتى اصبح التحديث بالاحاديث النبوية الشريفة فى شرف فضلاء اهل بيته من الخمسة الطيبة من اهل الكساء(عليهم السلام) مما كان ينبغى التقية فيها، هذا مانراه فيما رواه الخطيب البغدادى فى تاريخه قال: ان المحدث الكبير نصر بن على الجهضمى لما حدث بحضرة الخليفته العباسى المتوكل على الله بحديث شريف عن النبى(صلى الله عليه وآله) فى سبطيه الحسنين(عليهم السلام)قال: «من احبّنى و احبّ هذين و اباهما و امهما كان يوم القيامة معى فى درجتى» فامر المتوكل بضربه الف سوط! فقام اليه من حاشيته جعفر بن عبدالواحد و قال له: ان هذا الرجل من اهل السنة(؟!) و لم يزل به حتى تركه.[18]

و حتى جاء فى شعر بعض ائمة الاحناف، و لعله الشيخ حسين الميبدى اليزدى من اعلام اهل السنة فى اواخر القرن التاسع و اوائل العاشر، قال:

حبّ اليهود لآل موسى ظاهرٌ *** و ولاهم لبنى اخيه بادى

و امامهم من نسل هارون الاُولى *** بهم اقتدوا، ولكل قوم هادى

و كذا النصارى يكرمون محبّةً *** لمسيحهم نجراً من الأَعواد

و متى يوال آل احمد مسلمٌ *** قتلوه او وسمعوه بالأِلحاد

هذا هوا الدّاء العياء لمثله *** ضلّت حلوم حواضر و بوادى

لم يحفظوا حقّ النبى محمد(صلى الله عليه وآله) *** فى آله، و الله بالمرصاد[19]

موارد التقية ايجاباً و تحريماً

لا ريب فى اهتمام الشارع الاقدس بحفظ النّفس من الهلاك حتّى عُدّ من اهمّ الواجبات. فالعقل السليم يحكم فطريّاً بأنّه عند وقوع التزاحم بين الوظيفة الفرديّة و بين شوكة الاسلام و عزّته و قوته، او وقوع التزاحم بين حفظ النفس و بين واجب آخرا و محرَّم فلابدّ من سقوط تلك الوظيفة الفردية، و ذلك هو التقيّة ليس الاّ.

و عليه فالمراد بالتقيّة هو: الاتيان بعمل مخالف للحق، او ترك عمل موافق للحق، او كتمان الايمان او المذهب، بحيث لا يهدم حقاً و لا يبنى باطلاً، ليس الا تحفظاً من ضرر الغير بالنفس او العرض او المال المعتدّ به، لنفس الشخص او غيره من المؤمنين، او بالدين او بالمذهب او لأعزار الاسلام و اعلاء كلمة الله و المسلمين و تقوية لشوكتهم.

اذن، فانما تجب التقية فيما اذا لم يكن ما يتقى به هادماً لحق و لا بانياً لباطل، و لم يكن العامل ممن يقتدى به النّاس و لا يؤخذ عمله حجة، و لم يكن ما يتقى به من المهمّات الشرعية، و لا موجباً لذلّة المؤمن و حقارته، و كان الضرر المترتب على ترك التقية هلاك النفس او وهناً فى الدين.

و بناءً على هذا التعريف للتقية فانها لا تجوز فى سبعة مواطن:

الاول: فى الدماء فانه لا تقية فيها، فكل ما يستلزم اباحة دم محترم تحرم التقية فيه.

الثانى: فيما اذا كان ما يتقى به من قبيل هدم الحق كهدم الكعبة او حرق القرآن الكريم او تحريفه لترويج الباطل به و ما شاكل ذلك.

الثالث: فيما اذا كانت التقية تُؤدّى الى الفساد فى الدين او ذلة المؤمنين.

الرابع: فيما اذا كانت التقية يعود ضررها على المجتمع المسلم.

الخامس: فيما اذا كانت التقية تجلب للمؤمن ذلة و حقارة و حطة عن شرافته و مقامه.

السادس: فيما اذا ظهرت البدع فى الدين او المذهب، فيحنئذ على العالم ان يُظهر علمه بلغ ما بلغ.

السابع: فيما اذا كان الشخص رأساً فى الدين او المذهب و قدوةً و مرجعاً لهم، بحيث يلزم من تقيّة و هن الدين اورواج الباطل، مثل اتباعه للحاكما لظالم او شر به الخمر.

و من هذا ما رواه الكينى فى «فروع الكافى» بسنده عن زرارة عن الصادق(عليه السلام) قال: ثلاثة لا اتقى فيهن احداً: شرب المسكر، و متعة الحج، و المسح على الخُفَّين. قال زرارة: و لم يقل: الواجب عليكم. ان لا تتقوا فيهن احداً.

بينما[20] روى الكشىّ فى رجاله باسناده عن درست بن منصور قال: كنت عنده(عليه السلام) و عنده الكميت بن زيد فقال للكميت: انت الذى تقول: فالان صرت الى امية…؟ قال: قد قلت ذلك فوالله ما رجعت عن ايمانى و انى لكم لموال و لعدوكم لقال، ولكنّنى قلته على التقية. فقال(عليه السلام): اَمالئن قلت ذلك فان التقية تجوز فى شرب الخمر.[21]

فجازت التقية فى شرب الخمر للماموم فيما لم تجز للامام(عليه السلام) كما مرّ فى الخبر السابق. فالشرائط و الاشخاص، و الاحوال و الاوضاع، و لمكان و الزمان، آثار فى رجحان التقية و الكتمان استحباباً و وجوباً، او مرجوحيته حرمة و كراهة، او تساوى طرفيه.

و من أجلى مصاديق اثر الزمان ما كان من التقية و الكتمان بين المسلمين الشيعة من اهل السنة، وذلك من اثر ذلك التنافر الذى او جدته ايدى السياسة الأثيمة التى مرّ آنفاً مثل لها من سياسة المتوكل العباسى. امّا فى هذا العصر فالعلماء و الباحثون احرار فى اظهار آرائهم حول المباحث الاسلامية، فلا خوف من قتل و لا سجن لبيان الآراء. فلا يقاس هذا الزمان بعصر الامويين و العباسيين و عصر الحجاج و المتوكل، فذلك زمان و هذا زمان، و لقد بدأت تصريحات علماء الشيعة فى كتبهم فى العقائد و غيرها تدفع عنهم ما افترت عليهم السياسة و التعصب و الجهل، و تذهب بالتنافر الّذى بقى بينهم اكثر من ثلاثه عشر قرناً من الزمان و قد حسن التجارب بين الفريقين و التفاهم فيما بينهم الى حدّ ان اصدر المرحوم الشيخ محمود شلتوت الشيخ الاكبر فى الجامع الازهر بمصر فتواه التاريخية بجواز التعبد بمذهب الشيعة الامامية الجعفرية الاثنى عشرية، فلم يبقى اليوم مجال للتقية الأِكراهية او الخوفية الكتمانية.

التقية المداراتيّة الوحدَويّة

نعم انما بقى من اقسام التقية اليوم التقية المداراتية الوحدوية، و هى بمعنى حسن السلوك و المعاشرة مع سائر المسلمين من اتباع ساير المذاهب الاسلامية. و يشهد لهذا النوع من التقية بعد آيات الذكر الحكيم الداعية الى الاتحاد و الاتفاق و الناهية عن التمزّق و الافتراق ـ سيرة ائمة اهل البيت(عليهم السلام) قولاً و عملاً.

فهذا امير المؤمنين على بن ابى طالب(عليه السلام) مع ما كان يشكو ممّا حلّ به فيقول: «اما و الله لقد تقمّصها ابن ابى قحافة و انه ليعلم ان محلّى منها محلّ الفطب من الرَّحى، ينحدر منّى السيل و لا يرقى الىَّ الطير… فطفقت أرتأى بين ان اصول بيد جذّاء، او اصبر على طخية عمياء يهرم فيها الكبير و يشيب فيها الصغير و يكدح فيها مؤمن حتى يلقى ربّه، فرأيت انّ الصبر على هاتا احجى، فصبرت و فى العين قذى و فى الحق شجا، آرى تراثى نهباً،[22] مع ذلك كان يحضر جماعة المسلمين و يعود مرضاهم و يشيع جنائزهم، و يشير عليهم بحلوله لمشاكلهم فى الحروب و غيرها كما جاء منها نماذج فى «نهج البلاغة» و كذلك كان ابناه الحسنان(عليهم السلام) و لعلى بن الحسين زين العابدين(عليه السلام) فى كتاب ادعيته المعروف بالصحيفة السجادية دعاءٌ لاهل الثغور للبلاد الاسلامية، و التى كان حكّامها بنى امية، يدعو لهم بابلغ دعاء مشحون بالحقائق، اعلاء لكلمة الاسلام و حفظاً للوحدة الاسلامية.

و لما بدت الفوارق المذهبية بين مذهب اهل البيت(عليهم السلام) و ساير المسلمين، بدأ بعض شيعتهم يسألونهم كيف يخالطون سائر المسلمين.

منه ما رواه الكلينى فى «فروع الكافى» بسنده عن معاوية بن وهب قال: قلت لابى عبدالله(عليه السلام): كيف ينبغى لنا ان نصنع فما بيننا و بين قومنا و خلطائنا من النّاس ممن لبسوا على أمرنا؟ فقال: تنظرون الى ائمّتكم الذين تقتدون بهم فتصنعون ما يصنعون، فوالله انهم ليعودون مرضاهم، و يشهدون جنائزهم، و يقيمون الشهادة لهم و عليهم، و يؤودن الامانة اليهم.[23]

و روى فيه بسنده عن حبيب الخثعمى عنه(عليه السلام) قال، عليكم بالورع و الاجتهاد، و اشهدوا الجنائز، و عودوا المرضى، و احضروا مع قومكم مساجدكم، و احبّوا للناس ما تحبّون لانفسكم، أما يستحى الرجل منكم ان يعرف جاره حقه و لا يعرف هو حقّ جاره؟![24]

و روى فيه بسنده عن هشام الكندى قال: سمعت ابا عبدالله(عليه السلام) يقول: اياكم ان تعملوا عملاً نعيربه، فان ولد السوء يعيَّر والدُه بعمله، كونوا لمن انقطعتم اليه زيناً، و لا تكونوا عليه شيئاً: صلّوا فى عشائرهم، و عودوا مرضاهم، و اشهدوا جنائزهم و لا يسبقونكم الى شىء من الخير فانتم اولى به منهم، و الله ما عُبِدالله بشىء احبّ اليه من التقية.[25]

و حتى فى الحديث طلبوا من شيعتهم ان لا يحدثوا الناس بما ينكرون و انما بما يعرفون: فقد روى الصدوق فى «الخصال» بسنده عن مدرك بن الهزهاز عن ابى عبدالله(عليه السلام) قال: رحم الله عبداً اجترّ مودّةَ الناس الى نفسه فحدّثهم بما يعرفون و ترك ما ينكرون.[26]

وامروهم بالصلاة معهم و خلفهم

فقد روى الكلينى فى «فروع الكافى» بسنده عن زرارة قال: كنت جالساً عند ابى جعفر الباقر(عليه السلام) ذات يوم ان جاءه رجل فدخل عليه فقال له: جُعلت فداك، انى رجل جار لمسجد قومى، فاذا انالم اُصلّ معهم و قعوا فِىَّ و قالوا: هو كذا و كذا؟! فقال(عليه السلام): لقد قال امير المؤمنين(عليه السلام): من سمع النداء فلم يحببه من غير علّة فلا صلاة له… فلا تدع الصلاة معهم و خلف كل امام.[27]

و روى البرقى فى كتابه «المحاسن» بسنده عن عبدالله بن سنان عن ابى عبدالله(عليه السلام) قال ان الله تبارك و تعالى يقول فى كتابه (و قولوا للناس حسناً) فعودوا مرضاهم، و اشهدوا جنائزهم، و اشهدوا لهم و عليهم، و صلوا معهم فى مساجدهم.[28]

و روى الطوسى فى «التهذيب» بسنده عن ابى على قال: قلت لابى عبدالله(عليه السلام): ان لنا اماماً مخالفاً، و هو يبغض اصحابنا كلهم؟! فقال(عليه السلام) ما عليك من قوله، فكن اول داخل و اخر خارج، و أحسن خلقك مع الناس، و قل خيراً.[29]

و روى فيه ايضاً بسنده عن اسحاق بن عمار قال: قال لى ابو عبدالله(عليه السلام): يا اسحاق أتصلّى معهم فى المسجد؟ قلت: نعم، قال: صلّ معهم فان المصلى معهم فى الصفّ الاول كالشاهر سيفه فى سبيل الله.[30]

بل روى الكلينى فى «فروع الكافى» بسنده عن الحلبى عنه(عليه السلام) قال: من صلى معهم فى الصف الاول كان كمن صلى خلف رسول الله،[31] و روى مثله الصدوق فى «كتاب من لا يحضره الفقيه» بسنده عن حماد بن عثمان كذلك، و فى [32]اماميه بسنده عن ابى بكير.[33]

و فى مسائل على بن جعفر عن اخيه موسى بن جعفر قال: صلَّى الحسن و الحسين مع مروان، و نحن نصلّى معهم[34] و فى الصلاة خلفهم و تزويجهم روى احمد بن محمد بن عيسى بن نوادره عن سماعة قال: سألته عن الصلاه خلفهم و مناكحتهم فقال: هذا امر شديد ان تستطيعوا ذلك انكح رسول الله(صلى الله عليه وآله) و صلى على(عليه السلام) وراءهم.

وارى من[35] المناسب ان اشير الى مقالات فى التقية وردت فى بعض الكتب:

1. تحت راية الحق فى الردّ على فجر الاسلام، للشيخ عبدالله السُّبيتى العاملى، 125 ـ 127.

2. مع الخطيب فى خطوطه العريضة، للشيخ لطف الله الصافى، 33 ـ 40.

3. رسالة التقية، تكملة فقه الصادق، للسيد محمدصادق الروحانى، 147 ـ 210.

4. شبهات حول التشيع، للشيخ على آل عصفور، 47 ـ 50.

[1]. سوره آل عمران، آيه 28.

[2]. التبيان، ج 2، ص 433 ـ 435، ط النجف الاشرف و معاصره الواحدى فى اسباب النزول، ص231، ط بيروت بتحقيق الجميلى.

[3]. مجمع البيان، ج 2، ص 30، ط بيروت، دارالمعرفة.

[4]. التمهيد، ج 1، ص 106، ط قم المقدسة.

[5]. مجمع البيان، ج 5، ص 597.

[6]. التمهيد، ج 1، ص 105.

[7]. مجمع البيان، ج 8، ص 810.

[8]. الميزان، ج 12، ص 359.

[9]. فروع الكافى، ج 2، ص 134، ح 1.

[10]. التفسير المنسوب الى الامام الحسن العسكرى(عليه السلام)، ص 175، ح 84.

[11]. مفاتيح الغيب، ج 2، ص 437، ط 1308 هـ.

[12]. تفسير المنار للسيد رشيد رضا، تفسير سوره آل عمران.

[13]. الغدير، ج 1، ص 373.

[14]. مسند الامام احمد، ج 4، ص 368.

[15]. مسند الامام احمد، ج 4، ص 368 و عنه فى الغدير، ج 1، ص 29 ـ 30.

[16]. أسدالغابة، ج 1، ص 308، بترجمة جندع بن عمرو الانصارى.

[17]. الأغانى للاصفهانى، ج 15، ص 126 و عنه فى الغدير، ج 3، ص 200 ـ 201.

[18]. تاريخ بغداد، 28813 خ 7255.

[19]. شرح ديوان الميبدى، ص 115.

[20]. فروع الكافى، ج 3، ص 32، ح 2 و باب 25، ح 5; الفقيه، ج 1، ص 30، ح 95; التهذيب، ج 1، ص362; الاستبصار، ج 1، ص 76، ح 237 و عنها فى وسائل الشيعة، ج 1، ص 457، ط آل البيت.

[21]. رجال الكشى، ص 207، ح 364، ط مشهد.

[22]. نهج البلاغه، الخطبة الشقشقية.

[23]. الكافى، ج 2، ص 464، ح 2 ـ 3.

[24]. الكافى، ج 2، ص 464، ح 3.

[25]. الكافى، ج 2، ص 464، ح 11.

[26]. الخصال، ص 25، ح 89.

[27]. الكافى، ج 3، ص 372، ح 5 و التهذيب، ج 3، ص 24، ح 84.

[28]. المحاسن للبرقى، ج 18، ص 51.

[29]. التهذيب، ج 3، ص 55، ح 19.

[30]. التهذيب، ج 3، ص 277، ح 809.

[31]. الكافى، ج 3، ص 380، ح 6.

[32]. من لا يحضره الفقيه، ج 1، ص 25، ح 1126.

[33]. امالى للصدوق، ص 300، ح 13.

[34]. مسائل على بن جعفر، ص 144، ح 173.

[35]. نوادر احمد بن محمد بن عيسى، ص 129، ح 321; و كلاهما فى وسائل الشيعة، ج 8، ص 301، ط آل البيت.

دیدگاهتان را بنویسید

نشانی ایمیل شما منتشر نخواهد شد. بخش‌های موردنیاز علامت‌گذاری شده‌اند *

بازدید: 20
مطالب مرتبط