المعتزله
* الاشعرية
* الماتريدية
* فرق الشيعة
* الشيعه الزيدية
* الشيعة الاسماعيلية
* الشيعه الاثناعشرية
* الحمدانيون و الشيعة
المعتزله
لقد ظهرت فى عالم الاسلام مذاهب و فرق كلاميه كثيره متعددة منها القدرية و المرجئة والجبرية والمعتزلة و الزيدية و الكرامية و الاشعرية و الماتريدية و الامامية و غيرها والتى تتمع بالشهرة و لاهمة البالغة من بين هذه المذاهب، هى الامامية و المعتزلة و الاشعرية والماتريدية و ينبقى لنا ان اجمالا و اختصارا على ميزان كل واحدة ومنها فى جوابها المختلفة و لنبدا اولا بدراسة المذاهب الكلامى المعتزلى.
ظهور المعتزلة:
ظهرت مدرسة الاعتزال هذه بواسطه واصل بن عطاء فى اوائل القرن الهجرى و كان مسالة مرتكب الكبيرة و حكه الدنيوى و الاخروى مورد اللبحث الجدى فى ذلك الوقت، فزعمت الخوارج انه كافر مشرك و قالوا، انه اذا مات بغير توبة فسيتلقى عذاب الخلد والامة اكثرهم كانوا على القول بانه مومن فاسق، و سماه الحسن البصرى منافقا، فابرز واصل بن عطاء ضمن هذه الظروف الثائرة رايا جديدا، فقال، لما كان الايمان اسم مدح و هو عبارة عن خصال الخير، و صاحب الكبيرة لم يستعجمع لخصال الخير، بل فاقد لبعضها، كما ان الفسق اسم ذم ايضا، فلا يسمى الفاسق ـ من هذه الجهة ـ مومنا، و ليس هو بكافر على الاطلاق ايضا، لان الشهادة و سائر اعمال الخير موجودة فيه، هذا فلابد و ان يقال ان الفسق حد يتوسط بين الايمان و الكفر فليس صاحب الكبيرة بمومن و لابكافر، ولكنه اذا خرج من الدنيا على كبيرة من غير توبة فهو من اهل النار خالد فيها، اذ ليس فى الاخرة الا فريقان فريق فى الجنة، وفريق فى السعير، و الجنة للمومنى الابرار و الصالحين خاصة ثم شاعت هذه النظرية باسم المنزلة بين المنزلتين.[1]
وجه التسمية:
قال الشيخ المفيد: و اما المعتزلة و ماوسعت به من اسم الاعتزال فهو لقب حدث لها عند القول بالمنزلة بين المنزلتين و ما اخذبه واصل بن عطاء من المذهب فى ذلك و نصب من الاحتجاج فتابعه عمروبن عبيد و وافقه على التدين به من قال بها و من اتبعهما عليه الى اعتزال الحسن البصرى و اصحابه و التحيز عن مجلسه فسماهم الناس المعتزلة لاعتزالهم مجلس الحسن بعد ان كانوا من اهله و تفردهم بماذهبوا اليه فى هذه المسئلة من جميع الامة و سائر العلماء، و لم يكن قبل ذلك يعرف الاعتزال و لاكان علماء على فريق من الناس[2] ثم ان صاحب فرق الشيعة قد صرح: ان اسم الاعتزال او المعتزلة قد اطلق فى بداية الامر على اولئك الذين بايعوا عليا بعد اغتيال عثمان، الا انهم اعتزلوا عن على(عليه السلام) و امتنعوا من محاربته و المحاربة معهم منهم عبدالله بن عمر و سعدبن ابى وقاص و محمدبن مسلمة الانصارى فسموا المعتزلة و ماروا اسلاف المعتزلة الى آخر الابد[3]، و قد عرفت انفا تصريح الشيخ المفيد على ان اسم الاعتزال لم يعهد قبل اعتزال واصل عن مجلس الحسن البصرى. و لاجل الجمع بين القولين هذين نقول: الاعتزال الذى يعنيه الشيخ المفيد انما هو الاعتزال الكلامى وهذا الاعتزال لم يظهر قبل مجى واصل بن عطاء، و لكن الاعتزال الذى يريده النوبختى انما هو الاعتزال السياسى الذى ظهر فى عهد على(عليه السلام)
اصول المعتزلة:
اشتهرت المعتزلة باصولها الخمسة، و ابتنت عليها، فمن دان بها فهو معتزلى كما قال ابوالحسين الخياط من مشايخ المعتزلة: الاعتزال قائم على اصول خمسة عامة من اعتقدبها جميا كان معتزليا، و من نقص منها اوزاد عليها و لواصلا واحدا، لم يستحق اسم الاعتزال، وتلك الاصول مترتبة حسب اهميتها و هى:
1ـ التوحيد. 2ـ العدل. 3ـ الوعد و الوعيد. 4ـ المنزلة بين المنزلتين. 5ـ الامر بالمعروف والنهى عن المنكر.[4]
لذا صنف بعض مشيخة المعتزلة متوئهم الكلامية على حسب هذه الاصول، بل سموا بها كتبهم، منها كتاب شرح الاصول الخمسة، تاليف القاضى عبدالجبار (م / 415)
3ـ منهج الفكر الاعتزالى:
سلك المعتزلة فى البحوث الكلامية و التفسير للاى القرانية منهجا عقليا و فكريا محضا، و كلما تعارضت نتائج استدلالاتهم العقلية مع ظواهر النصوص الدينية فعوّلوا الى التاويل حتى يتمكن بذلك ايجاد التوافق بين العقل و الدين، و احداث التلاوم بينهما، و ان الفلاسفة، الاسلاميون سائرين على هذا و لكن الفلاسفة الاسلاميين يستفيدون من الفكر البرهانى، وقال اللاهورى فى وصف هولاء: كان واصل بن عطاء قد اسس مذهب الاعتزال فيه اوائل القرن الثانى الهجرى، و ذلك هو المذهب العقلى فى عالم الاسلام… فحكماء الاعتزال قد طرحوا مسالة التوحيد بالاستدلال الجدلى الدقيق الذى تفوقوا به على المسلمين السذج.[5]
و قال احمد امين موضحا لمنهجهم: انهم لم يقنعوا ـ كما قنع غيرهم ـ بالايمان بالمتشابهات جملة من غير تفصيل، فجمعوا الايات التى قد يظهر بينها خلاف كالجبر، والاختيار، و كالآيات التى قد يظهر منهما جسمية الله تعالى و سلطوا عليها عقولهم و جرءوا على مالم يجرا عليه غيرهم، فاذاهم النظر فى كل مسالة الى راى، فاذا وصلوا اليه عمدوا الى الايات التى يظهر انها تخالف الاولى فاوّلوها، فكان التاويل من اهم مظاهر المتكلمين فاذا اداهم البحث الى ان الانسان مختار اوّلوا آيات الجبر، و ان اداهم البحث الى ان الله منزه عن الجهة و المكان اوّلوا الايات التى تشعر بانه تعالى فى السماء، و اوّلوا الاستواء على العرش، واذا اداهم البحث الى ان نفى الجهة عن الله يستلزم ان اعين الناس لا يمكن ان تراه تعالى لانها ركبت تركيبا بحيث لاترى الا ما كان فى جهة، اوّلوا الاخبار الواردة فى روية الناس لله، وهكذا، فالتاويل عنصر من اهم عناصرهم، و اكبر مميزلهم عن السلف.
و من العوامل المهمة الموثرة فى انحيازهم نحو النهج العقلى هو دخولهم فيه الحوار الكلامى العميق مع اقوام من الملل الاخرى من يهودية و نصرانية و وثنية، و كانت قد تفلسفت عقولهم، لاجل ان هولاء لم يكفهم فى القناع ان تذكر لهم اية من القران او الحديث، بل يريدون الرجوع الى قضايا تستند على القدر المشترك من العقل فاضطرهم ذلك ان يدخلوا فى المنهج الفلسفى (الفكر العقلى).[6]
لاشك و لاريب ان منهج الفكر الاعتزالى عقلى و تاويلى، و يتجلى ذلك عند مراجعة متونهم الكلامية و التفسيرية، و سنتطرق فى المستقبل الى نقطة القوة و الضعف لهذا المذهب عند دراسة منهج الفكر الامامى.
تطور كلام المعتزلة
ان كلام المعتزلة و ان قام على الفكر العقلى لكنه لم يدم و لم يطل عمره اذ بعد قرون انهزم فى المقابلة و المجابهة مع الظاهرية و مع ذلك فقد مرت على مكتبهم الكلامى تطورات نستعرضها اجمالا:
1ـ عصر الامويين:
و نحن نعلم ان الامويين من الحماة المتشددين للفكرة الجبرية و يخاصمون القائلين بالاختيار، كما قد قتل على ايدى هولاء العديد من المتصدرين فى القدرية نظير معبد الجهنى (م / 80) و غيلان الدمشقى (م / 112)[7] و هما من اسلاف المعتزلة، وظهرت المعتزلة فى اواخر سلطة الامويين (100 ـ 132) و كان العدان الاولان لها مقرنين مع حكومة هشام بن عبدالملك (105 ـ 125) الذى يعادى القدرية و يخاصمهم لذا ينبغى ان يقال: ان المعتزلة فى هذين العدين ليست لهم تلك الحرية المنشودة اللازمة لنشر معتقداتهم، فاضطروا الى اتخاذ منهج فمن مناسب بالواضع الحاكم انذاك حتى لم يبتلوا بما قداصاب اسلافهم.
بيدان الحكومه الاموية بعد هلاك هشام، قد افتقدت الثبات و القدرة السياسية وجنحت الى الاضطراب و التزلزل، حتى حدث تغير و تحول سياسى ثلاث مرات فى خلال السنتين (125 ـ 127) و اخذ فيهما زمام السلطة ثلاثة من الحكام الامويين[8] وفى ايام اخر السلطة الاموية حتى انقرضت فى نهاية الامر وانتقلت السلطة الى العباسيين.[9]
فتهيات نتيجة لتلك الظروف السابقة فى الفصل الاخير من تاريخ الحكومة الاموية الارضية المناسبة للنشاطات الفكرية و الثقافية يقوم بها المفكرون الاسلاميون، و قد انتهزت المعتزلة هذه الفرصة، و اشتغلوا بنشر افكارهم و عقائدهم فى مختلف بقاع العالم الاسلامى.
فتبين مماسبق ان قيادة الكلام المعتزلى فى هذه المرحلة يتسلمها و يتزعمها موسسه، اعنى واصلابن عطاء و قد توفى هو فى سنة 131 الهجرية، ثم ساد من بعده الى سنة 143 عمر بن عبيد كلام المعتزلة.
ب) عصر العباسيين:
ان كلام المعتزلة قد قطع اربعة ادوار متمايزة فى عهد العباسية و هى عبارة عن:
1ـ دورة قبل المامون (132 ـ 198) 2ـ دورة المامون و الواثق (198 ـ 232)
3ـ دورة المتوكل و بعدها(232 ـ 300) 4ـ بعد ظهور الشيخ الاشعرى.
ففى اوائل الدورة الاولى (من عصر السفاح و المنصور) ما كانوا يقفون امام الجهاز الحاكم بالقوة و الشدة مطلقا، و ما ذهبوا تحت حمايتهم بل هم فى هذه الايام ينقدون الجهاز الحاكم و يعددون مظالمة بمقتضى مبدائهم فى الامر بالمعروف و النهى عن المنكر، و لكنهم مع ذلك امتنعوا عن القيام فظلّوا آمنين فى الشيخ من سخظ العباسيين و بطشتهم.
ولكنهم فى اواخر هذه الدورة (عصر هارون الرشيد) و قعوا فى مضيقة لاجل ان هارون الرشيد كان قد نهى فى هذه الدورة عن الكلام و الجدال (و قد تعلق به المعتزلة تعلقا شديدا وبذلوا فيه العناية الفائقة) بل حتى امر بحبس المتكلمين.[10]
على اى حال، فان ترجمه الكتب الفلسفية و غيرها الى العربية بدات فى هذا العصر، كما قال على بن محمد الخراسانى: كان المنصور اول خليفة ترجمت له الكتب السريانية والاعجمية و كتب اليونان[11]
عصر القدرة و الازدهار للمعتزلة:
كانت الدورة الثانية، عصر تسامى عزة المعتزلة و تعالى قدرتهم، لاجل انهم فى هذه الدورة تمتعوا بالحماية التامة الكاملة من قبل الخلفاء العباسيين، واشهروا افكارهم و عقائدهم كعقائد دينية رسمية فى الاوساط، و نشروها فى الجامعات بكل حرية، و تشددوا على مخالفيهم من اهل الحديث و الحنابلة تمسكابعقيدتهم الخاصة فى الامر بالمعروف والنهى عن المنكر، و من المسائل التى اثارت بحثا ساخنا و مناظرة عنيفة جرت بينهم ومخالفيهم، مسالة خلق القران و لما كان لعنصر السياسة دور كبير و مهم فى هذه المخالفة، فتعالت متصاعدة نيران النزاع و و تجاوزت عن حد الجدال الكلامى السائد المتداول، الى الضرب و العنف و الحبس و القتل، لذا سموا هذا العصر من تاريخ الاسلام، عصر المحنة.
المعتزلة الى الضعف والافول:
و لما قضى الواثق نحبه (م / 232) و تسنم ابنه المتوكل (232 ـ 247) على الخلافة افل نجم المعتزلة المتلألى اللامع، فانه قد اتخذ مسلكا يغاير و يضاد منهج الخلفاء الثلاث قبله اطلاقا، اذنهى عن البحوث الكلامية، و كان يحمى و يويد المخالفين للمعتزلة و يدافع عن النظرية القائلة بقدم القران، كانت مخالفة المتوكل للمعتزلة (بل للعقلية فى الحقيقة) سنة سيئة يتبعها الحكام العباسيون من بعده، و هذا الامر بطبيعته يدفع الظاهرية اعتمادا وتعويلا على القدرة السياسية الحاكمة نحوا لمخالفة الجادة مع العقليين و على الاقل امكنهم الصد عن تطور و انتشار الفكرة العقلية، و استفادوا فى هذا الصدد من الحوادث المريرة النكراء لعصر المحنة، و اثاروا افكار العامة ضد المعتزلة، بيدان مخالفتهم ما كانت قائمة على الادلة العقلية و المنطقية لذالم تتلق القبول من ذوى العقول و اولى الالباب، هذا. ومن جانب آخر قام اساتذة الكلام الاعتزالى و اعلام المعتزلة بالذب عن معتقدات المعتزلة و آرائهم فمنهم ابوعثمان الجاحظ (256) احد ادباء المعتزلة و متكلميهم البارزين، فالف كتابا اسماه (فضيلة المعتزلة) فدافع عن مشيخة مذهبه و اثنى عليهم، و قد جذب الكتاب افكارا نحو نفسه.
على هذا، فكانت المعتزلة بعد المتوكل الى اخر القرن الثالث الهجرى، و ان ضعفت شوكة عظمتهم و تساقطت عزتهم منحدرة الى الذل و الانحلال، و كانت الخلافة العباسية فى الوقت نفسه تجنح الى خصومهم و تدعمهم و تحميهم، و لكن لما كان اهل الحديث والظاهرية يحسبون الجدال والكلام بدعة و لم يستخدموا فى المقابلة و المواجهة مع معتقدات المعتزلة الاستدلال العقلى، بل سلاحهم الوحيد هو التدرع و التعويل على الظواهر وتكفير المخالفين، فاستطاعت المعتزلة من هذه الفرص التى حازوها ان يذبوا عن انفسهم مستفيدين الطريق الجدلى و الاستدلال العقلى و يصمدوا ثابيتن امام حملات الظاهرية الساحقة الكاسحة.
وفى اوائل القرن الرابع الهجرى رجع ابوالحسن الاشعرى (م / 324 او 330 هـ) عن الاعتزال، ولقد كان قبل ذلك ربيب ابى على الجبائى (م / 303 هـ) و تلميذه، بل ترعرع وتلمذ فى مدرسة الاعتزال سنوات حتى استوعب الجدل و الكلام استيعابا واسعا و كاملا، و ذلك لما جرت بينه و استاذه مناظرة بحيث لم يجد فيها اجوبة ناجعة و مقنعة من استاذه، فاعلن البراءة و الرجوع عن الاعتزال فى جامع البصرة يوم الجمعة، و البراءة من ارائهم واقوالهم بخلق القران و روية الله و خلق الافعال.
و كان اعتزال ابى الحسن الاشعرى الذى كان من اكابر تلاميذ مدرسة المعتزلة عنها ضربة شديدة و حاسمة عليها، فقد قام من جانب بمخالفة معتقدات المعتزلة سالكا الطريق الذى نهجوه، فلذا كان التحاقه باهل الحديث و التدين بمعتقداتهم التى تقبلها عامة الناس كثيرا، ومن جانب آخر تجهزه بسلاح العقل و المنطق و الجدال الكلامى الذى يقبله المفكرون، مضافا الى مشارسة الخلافة العباسية و مخاصمتها للمعتزلة، فهذه كلها تشكل اسبابا لسقوط الكلام و الفكر الاعتزالى و ابتعاده عن ساحة المجتمع غير ان هذا الانهزام و السقوط لم يوقع فى نفوس العقلية المعتزلة ياسا و قنوطا. فلم يزل بعض مفكريهم المتشددين يحامون عن حريم مدرستهم
انتعاش المعتزلة بحياة جديدة:
وفى الختام نقول: ان عقائد المعتزلة و اراءهم قد اخذت و جلبت الى نفسها انظار المحققين و اصحاب الراى فى العصور الاخيرة، و حلت موضع البحث و التحقيق، وقد اهتم بدراسة مذهب الاعتزال هذا اولا المستشرقون ثم بعض المفكرين من اهل السنة وبالاخص المفكرين من اهل السنة و بالاخص المفكرين المصريين فقد بذلوا على ذلك عناية كبيرة بعض مبادى المعتزلة و عقائدهم، كما سياتى توضيح ذلك عند دراسة مدرسة الاشاعرة. ونختم كلامنا فى هذا الفصل بنقل قسم من كلام احمد امين المصرى فى وصف المعتزلة اذ قال:
والان يحق لنا ان نتساءل: هل كان فى مصلحة المسلمين موت الاعتزال و انتصار المحدثين؟
فى رايى ان ذلك لم يكن فى مصلحتهم، و انه كان خيراللمسلمين الايدخل المعتزلة فى احضان الدولة و ان يعيشوا كما عاشوا فى عهد المنصور و اول عهد المامون: من ذلك اكبر نفع، و لتغير تاريخ الاسلام، فحزب المعتزلة يمثل حزب الاحرار، و حزب المحدثين يمثل حزب المحافظين، و من مصلحة الامة ان يكون الحزبان.
فلما ذهب ضوء المعتزلة وقع الناس تحت سلطان المحدثين و امثالهم من الفقهاء، وظلموا تحت هذا السلطان من عهد المتوكل الى ما قبل اليوم بقليل، فكانت النتيجة جمودا بحتا، علم العالم ان يحفظ الاحاديث ويرويها كما سمعها، و يفسرها تفسيرا لغويا ويشرح رجال السند كما شرحه الاقدمون، هذا ثقة، و هذا ضعيف من غير نقد عقلى، و فقه الفقيه ان يروى اقوال الائمة قبله، فاذا عرضت مسالة جديدة لم تكن، فقصارى جهد المجتهدان يخرجها على اصول امامه، و تعجبنى عبارة المسعودى حيث يقول، ان المتوكل امر الناس بالتسليم و التقليد!
فهذه هى طبائع العلماء من عهد المتوكل، تسليم بالقضاء و القدر تسليم بما كان ومايكون، و من ثم تكاد تكون الكتب المولفة فى الحديث و الفقه و التفسير، بل و النحو واللغة من عهد المتوكل صورة واحدة، ان اختلفت فى شيى فاختلاف فى الاطناب والايجاز والبسط و الاختصار.[12]
الاشعرية
الفصل التاسع:
قد اشرنا فيما سلف ان اباالحسن الاشعرى قد قام بالدفاع عن عقائد المحدثين، والمخالفة لاراء المعتزلة فى بداية القرن الرابع الهجرى، و اصبحت مدرسته الكلامية ذائعة مشهورة و فى هذا الفصل ندرس هذه المدرسة بكل جوانبها المختلفة والمسائل التى تحوم حولها.
1ـ شخصية الاشعرى وآثاره العلمية:
ولد ابوالحسن على بن اسماعيل الاشعرى سنة 260 هجرى (سنة بدء الغيبة الصغرى) بالبصرة، و توفى سنة 324، اوسنة 330 هجرى ببغداد، و كان ابوه اسماعيل بن اسحاق المكنى با ابى بشر من اهل الحديث لذا تربى الاشعرى متر عرعافى احضان مدرسة اهل الحديث، و ارتوى منها المعتقدات، و لكنه لما بلغ عنفوان شبابه مال الى مدرسة الاتمنال وثبت عليها حتى الاربعين من عمر و لكنه عادللمرة الثانية و الاخيرة مغازاً الى المحدثين ومحاميا لعقائدهم و آرائهم، و قال فيه اشبى تا: كان الاشعرى فى نعومة اظفاره متشرعا، وفى عنان شبابه كان معتزليا، فحياته تعد مظهرا تاما. لعجز تلك الطفولة و قصور هذا[13] وقد كان خطيبا مصقعا وله مهارة فائقة تامة فى المناظرة، فقد كان لمناظرته مع ابى على الجبائى، وخطبته فى جامع البصرة فى ايام الجمعة اثر كبير و دور منهم فى نجاحه و شهرته و مضافا الى مبادرته الى الكتابة و التاليف فكذلك لم يأل جهدا فى نشر معتقداته و اشهار افكاره، فقد اخرج ابن عساكر اسامى كتبه التى صنفها الى سنة 320 هجرى و بلغ اسامى كتبه الى ثمانية و تسعين كتابا غير انهالم تصل الينا من اثاره المعروفة الا اربعة كتب هى عبارة عن:
1ـ مقالات الاسلاميين،
2ـ رسالة فى استحسان الخوض فى علم الكلام،
3ـ اللمع فى الرد على اهل الزيغ و البدع.
4ـ الابانة عن اصول الديانة؟
2ـ اعتزاله عن الاعتزال:
ظهرت هناك آراء و اقوال مختلفة فى سبب اعراض الاشعرى ورجوعه عن الاعتزال ويستفاد من عبارة الشهرستانى انَّ عجز ابى على الجبائى عن الاجابة للاسئلة التى طرحها الاشعرى فى المناظرة التى جرت بينهما ادى الى اعتزاله عن استاذه، فقال الشهرستانى: وكانت بين المعتزلة و بين السلف فى كل زمان اختلافات فى الصفات، و كان السلف يناظرونهم عليها، لاعلى قانون كلامى، بل على قول اقناعى، و يسمون الصفاتية وكلهم يتعلقون بظواهر الكتاب و السنة… الى ان جرت مناظرة بين ابى الحسن على بن اسماعيل الاشعرى و بين استاذه ابى على الجبائى فى بعض مسائل التحسين و التقبيح، فالزم الاشعرى استاذه امور لم يخرج عنها بجواب فاعرض عنه و انحاز الى طائفة السلف و تصر مذهبهم على قاعدة كلامية[14] و اعتقد هنرى كوربن ان هناك امرين قد اوجبا تغيير الجهة على الاشعرى والانخراط فى مذهب السلف و هما:
1ـ منهج الفكر المعتزلى الذى اقام للعقل وزنا مطلقا. يودى الى انمحاء الدين، لا جل ان العقل يقوم مقام الايمان مطلقا من غير قيد ولاشرط، فاذا كان العقل يحل ما فوق المسلمات الدينية افهل يلبث بعد ذلك جدوى و فائدة للايمان بالله و مانزل من عنده؟
2ـ يعد الايمان بالغيب من وجهة نظرالقران قاعدة اساسية للحياة الدينية، و الايمان بالغيب الى من الدلائل العقلية، على هذا فالاعتماد على العقل كدليل وقاعدة مطلقة لم يتناسق و لم يتلاعم فى الدائرة الدينية مع مبداء الايمان بالغيب.
خلافا لمدرسة الاشعرية، فهى ترى ان الدليل العقلى فى دائرة الادلة التى يجب ان تقام فى العقائد اليقينية والاصول الدينية فانه يتحفظ قدره و شانه الخاص مغايرة لما عليه الظاهرية التى تعد الاستلال العقلى بدعة و زندقة، ولكنها مع ذلك لم تقل ان العقل حجة مطلقة مقابلا للايمان و المسلمات الدينية[15] غير ان هذين الامرين(كما يلاحظ) لامساس لهما بفكرة الاعتزال، فانهم يقدمون العقل على الظواهر الدينية لا القطعيات والمسلمات الدينية. و مضافا الى ذلك انهم لا يقولون بان العقل حجة كافية بل انما قالوا هو حجة لازمة، وعمدة قواعد الاعتزال هى قاعدة الحسن و القبح العقليين، و مقالتهم فى هذا الموضوع موجبة جزئية ليست بكلية.
و قد اختلط عند هنرى كوربن فى دليله الثانى اصل الايمان بالغيب مع معرفة كنه ذلك ولم يميز بينهما، فالذى يجب الايمان به هو الايمان بواقع الغيب الذى بعضه يثبت على اساس العقل بعضه الاخر يثبت عن طريق الشرع، و ما هو فوق طاقة العقل هو المعرفة التامة لحقيقة الغيب و كنهه، و لهذا ينبغى ان يستمد العقد البشرى الذى يقصر عن الخوض فى المعارف الالهية العالية الشامخة من هدى الوحى (العقل الاعلى و الاسمى).
بناءا على هذا، فالقول باستقلال العقل فى ادراك بعض المسائل الالهية لم يتناف مع القول. بمحدودية العقل و احتياجه الى هدى الوحى قط. و يستغرب اعجابا ان يخفى على المفكرين المحققين امثال هنرى كوربن هذه الحقيقة الجلية.
ثم ان مولفى تاريخ الفلسفه، العربية ذكراً وجها آخر فقالا: لعل السبب الرئيسى هو ما كان يراه ابوالحسن من انشقاق بين المسلمين كان من شانه ان يقضى على الاسلام، و هو المسلم التقى الورع، فاشفق على دين الله و سنة الرسول من ان يذهبا ضحية المعتزلة، وقد ادت بهم نتائج مذهبهم العقلى الى نظريات لايقرها الاسلام الصحيح، وضحية المحدثين والمشبهة المتمسكين بحدف النص دون روحه و الذين كادوا يفضون بالاسلام الى حالة جمود و تحجر لاترضى العقل و لا يمكنها ان تغذى العاطفة الدينية، فاخذ موقفا وسطا بين اصحاب العقل واصحاب النص ينقذ الاسلام و ترضى به الاكثرية الساحقة من المسلمين.[16]
اقول: لابدفى هذا المقام من تمييز الامرين: احدهما: لم اعتزل الاشعرى عن مدرسة، المعتزلة؟ و ثانيهما: ما هو العامل لا علانه بالمخالفة معهم و تاسيس مدرسة كلامية جديدة؟
وللجواب عن السئوال الاول ينبغى ان يقال:ان الاشعرى كان يرى عقائد المعتزلة ونظرياتهم فى المسائل الكلامية المختلفة،؟ خاصة فيما يتعلق بالتوحيد و العدل عليلة وباطلة، و ادلته على بطلان تلك العقائد قد نقلت فى آثاره الكلامية و فى كتب الملل والنحل ايضا، هذا كما اشتهرت مناظرته مع استاذه ابى على الجبائى فى قاعدة الاصلح.
و اما ما هو العامل الذى استدعاه الى القيام بمخالفة المعتزلة؟ فلم يتبين بعد، ولكن دقة النظر فى آرائه نظرياته فى المسائل الكلامية التى اختلف فيها المعتزلة و اهل الحديث، ومغايرته لكلتا الطائفتين تمكننا ان نحدس انه كان ياتى بصدد العرض لتخطيط جديد فى اصلاح ما احسه من انحراف العقائد الدينية و حيادتها عن جادة الصواب التى قامت على عقلية المعتزلة و ظاهرية اهل الحديث، فبادر الى تعديل تكلما الطائفتين، و بذل كل جهوده فى ذلك، فبناءا على هذا، فنقول: ان اصح الوجوه المذكورة سابقا و اقومها فى الداعى الذى يوجب مخالفة الاشعرى للمعتزلة هو الوجه الاخير، و اما انه هل نجح الاشعرى و وفق فى هذا العمل، اولا؟ فهذا ماسيتجلى فى البحث القادم اللاحق.
فلعله، لاجل هذه الغاية الاصلاحية، اتخذ موقف عدم الانحياز فى المذاهب السنية الفقهية، حتى ان بعضهم ظنه شافعيا و ظن غيرهم انه كان مالكيا كما كان بعضهم الاخر يظنه حنبليا، فكانه كان حريضا على استحاله جميع المذاهب السنية، كما روى عنه ابن عساكر انه قال: كل مجتهد مصيب، و كلهم على الحق، و انهم لايختلفون فى الاصول و انما اختلافهم فى الفروع[17]
3ـ منهج الاشعرى فى علم الكلام:
وكما قد اشير سالفا ان الاشعرى اقدم على اراءه تخطيط جديد، ليتمكن من انحاء التضاد بين العقلية و الظاهرية و رفعه عن الساحة الاعتقادية، لذا اصبح هو مخالفا من جهة وموافقا من جهة لكل واحدة من المدرستين، فقدوافق العقليين فى القول بعدم بدعة وحرمة الاستدلال العقلى على العقائد الدينية، بل ذلك راجح و حسن، فبادر الى تاليف رسالة استحسان الخوض فى علم الكلام، حينما كان المحدثون يقولون ببدعة الكلام وحرمة الاستدلال العقلى، و فى الوقت نفسه كان يقدم الظواهر الشرعية على العقل عند تعارضهما، على هذا الاساس اصبح يضاد عقائد المعتزلة فى الصفات الذاتية و الصفات الخبرية، وكما انكر قاعدة الحسن و القبح العقليين و متفرعاتها فكذلك هو لم يقبل الوجوب العقلى بوجه، فقد وافق الاشعرى اهل الحديث فى هذه الموضوعات و المسائل، ولما كان القول ببطلان التاويل و الالحاح على حفظ الظواهر فى الموارد التى تعارض فيها اصل الصفات الالهية الجمالية والجلالية، فابدع فروضا كلامية جديدة مستفيدا من الاستدلال العقلى. و اذا كانت الفروض قد طرحت قبله واشتغل باحكامها و اتقانها، و هذه الفروض هى التى تشكل افكاره واراءه الخاصة فى علم الكلام
4ـ تطور المذهب الاشعرى:
لقد عرفت فيما سبق ان اباالحسن الاشعرى قام بمناضلة المذهب الاعتزالى فى بداية القرن الرابع الهجرى، و اشتغل بتحكيم ارائه الكلامية و نشرها، و لقد شاهد اواخر عمره تلامذبه و اصحاب يحرمون حوله،و جعلوا افكاره ترسا و ملجاا فى مواجهة ظاهرية اهل الحديث و عقلية المعتزلة المفرطة، واثنوا عليها، فلذا يمكن ان يدعى ان مدرسة الاشعرى قد تكونت فى عهد حياة موسسها، فقد واجهت المدرسة منذ ذلك اليوم الاول اعتراضات ومخالفات.
ومن جهة اخرى، فكما اشتغل الاشعرى بكل جهوده، باصلاح العقائد الدينية فى البصرة وبغداد، فكذلك قد حدثت فى الوقت نفسه، من تلك البوادر الاصلاحية بادرة اخرى فى سمرقند شرق المحيط الاسلامى التى جاء بها ابو منصور الماتريدى (م 333) مع تلك الاهداف المشابهة لما يهدفها الاشعرى، و اعتبر تلامذته الاقرباء محاولة الاشعرى فى هذا المجال، محاولة ناقصة غير تامة، و اتهموا مذهبه ممثلا لحزب المحافظين، ودافعوا عن افكار الماتريدى الممثلة الكاملة لاحياء السنة.
واما من الجانب السياسى فلم تكن مدرسة الاشعرى تتمتع بوضع حسن ولامكانة مطلوبة قبل وصول السلجوقيين الى منصة الحكومة( تقريبا فى النصف القرن الخامس الهجرى) و ذلك لان الذى تسنم كرسى السلطة هم ال بويه لمدة اكثر من قرن واحد (321 ـ 447) فكانت الظروف و الاوضاع فى عهد ال بويه تناسب بل تعاضد العقلية، ولم يكن وضع الاشاعرة انذاك بحسن، فمن جهة كانوا يدينون بمذهب الشيعة المحامى للعقلية، و من جهة اخرى كان بعضهم من اهل الفضل و العلم و الادب، وممن يويد الحرية الفكرية لذا ازدهرت اغصان مدرسة التشيع و الاعتزال فى عهد ال بوية، و قد كان ابن العميد و صاحب بن عباد (وزير ال بويه المفكران) يضادان و يخالفان الاشعرية.[18]
فلما وصلت السلطة الى ايدى السلجوقيين تغير الوضع الحاكم بحيث ينفع الاشاعرة ويشيد مذهبهم فحاز المذهب مقاما شامخا و منزلة ممتازة فى العالم السنى، لاجل ان الوزير السلجوقى نظام الملك (م 485) قد جعل التعليم فى المدرستين النظاميتين الشهرتين فى نيشابور و بغداد وفقا للمذهب الاشعرى، فاصبح المذهب الاشعرى منذ ذلك الحين الى ما بعده مذهبا رسميا، لاهل السنة، و انتهز الاشاعرة من هذا الموقف و الغرص لمكافحة الفرق الكلامية المخالفة و كما كانت لهذه المخالفة دواع كلامية، فكذلك كانت لها عوامل سياسية ايضا، لان السلطة التى تحمى و تيصر خصومهم فى نزاع دائم و معركة و متواصلة مع السلطة التى تويدهم و تذب عنهم فى بعض الموارد قال هنرى كوربن الفرنسى فى منازعة الغزالى للباطنية و الفلاسفة: كان الهدف من عداوة الغزالى للباطنية و الفلاسفة ـ فى الحالة هذه ـ
الخصومة العدائية مع الحكومة الفاطمية فى القاهرة، لانها تعضد و تحفظ الفلاسفة، وتنتفع من اصول الاعتقاد الباطنى لمنافعها[19] وقال مولفا تاريخ الفلسفة العربية فى وصف مقاومة الغزالى للباطنية كان سياسيا بقدر ما كان دينيا، اواكثر من ذلك وقد اقر الغزالى نفسه، فى اول كتاب المستظهرى، او كتاب فضائح الباطنية و فضائل المستظهرية.[20]
5ـ العقليون من الاشاعره:
الاقبال نحو العقلية فى عالم اهل السنة و ان سار الى التضاول و الافول بانتصار وغلبة الظاهرية على المعتزلة ولكن ذلك لم يفض الى اضمحلاله كليا ولا الانقلاع من اساسه، ولم يكن اصحاب المعتزلة وحدهم يدافعون عن مسلكهم متى ما سنحت لهم الفرصة المناسبة حتى بعد ذلك العصر، بل توجد من بين متكلمى الاشاعرة انفسهم شخصيات و وجوه بارزة وعظيمة تقدر الفكر العقلى و تقيم له وزنا، و خالفت الاشعرى فى بعض المسائل اوسعت لاصلاحها جاء فى تاريخ الفلسفة العربية فى هذا الضمار: لكن الاشعرية لم تبق على حالها مع الزمن، بل تطورت تطورا سريعا، جعلها تعود الى العقل و تجعل منه الدليل الاول حتى انها اعتبرته قبل النص كما قال الخيالى و عبدالحكيم فى حاشيتيهما على العقائد النسفية، وقررت ان النقل الوارد فى الممتنات العقلية يجب تاويله لتقدم العقل على النقل بحجة ان العقل اصل النقل لكونه موقوفا على اثبات الصانع و كونه عالما قادرا ففى ابطال العقل بالنقل ابطال الا اصل بالفرع و فى ذلك ابطال الاصل و الفرع جميعا.[21]
تطلع بين صفوف متاخرى الاشاعرة عدد كبير من العقليين منهم الشيخ محمد عبده(م1323؟) فهو و ان كان ينتمى الى مدرسة الاشاعرة، بيدانه فى مسائل تختلف فيها الاشاعرة و المعتزلة ادلى بآراء و نظريات تغاير مبادى الاشاعرة بوضوح، و كذا الشيخ شلتوت فانه من متاخرى اهل السنة الذين جنحوا الى العقلية، فقد رفض فى مسالة الجبر والاختيار نظرية الكسب الاشعرى، وكان يراها غير كافية لحل معضلة الجبر.
6ـ مشيخة الاشاعرة:
فى ختام هذا المبحث نذكر اسماء بعض ائمة الاشاعرة المشهورين وشخصياتهم العلمية، ومكانتهم الكلامية فى مدرسة الاشعرية:
1ـ القاضى ابوبكر الباقلانى(م 403 هجرى) ولد فى البصرة و توفى فى بغداد، الا انهالم تتلق القبول من المتكلمين الاشعريين لملا بستها للعلوم الفلسفية[22] فقد ذكرت له مولفات كثيرة، غير ان الذى طبع و وجد حاضرا بين الايدى ثلاثة هى عبارة عن: اعجاز القران، التمهيد فى الرد على الملاحدة، و الانصاف فى اسباب الخلاف.
2ـ ابواسحاق الاسفرائينى(م 418هجرى) كان من اصحاب النظر البارزين، عند الاشاعرة.
3ـ عبد الملك بن عبدالله الجوينى المعروف بامام الحرمين(م 478) وقد ولد فى نيسابور واشتغل فيه بدراسة العلوم الدينية، وكان فى الفقه الشافعى الاشعرى مجتهدا وصاحب راى، وكان وزير طغرل بيك السلجوقى فى سنة 456 ـ على ما حكاه ابن الاثير.
4ـ الامام محمد الغزالى[23] (م 505 هجرى): وقد ولد بالقرب من طوس فى قصبة صغيرة تقال لها غزالة فى سنه 450 و سافر الى نيشابور لطلب العلوم الدينية و تعرف على امام الحرمين و تلمذ فى محضره.
5ـ فخرالدين الرازى(م 606): كان من كبار متكلمى الاشاعرة المعروفين، فقد جعل بافكاره مدرسة الاشعرية متحولة و متغيرة، و اشتغل بالدراسة و التحقيق و التاليف فى مختلف الصناعات العلمية، و العقلية و النقلية، نظير الفلسفة و الكلام و المنطق و الاخلاق والفقه و اصوله، و الرياضيات، و النجم و الطب و غير ذلك.
6ـ عبدالكريم شهرستانى (م 548 هجرى قمرى): مولف الكتاب الملل و النحل الذى هومن اشهر كتب الملل و النحل، و يعد من اعلام الكلام الاشعرى المبرزين و قد صنف فى هذا الحقل كتابا اسماه نهاية الاقدام فى علم الكلام.
7ـ عضد الدين الايجى (م 756و 757): ولد فى الايج بقعة تقع فى جنوب اصطهبانات من نواحى شيراز و توفى فى كرمان، و كان من متكلمى الاشاعرة البارعين المشورين ومن اثاره المعروفه كتاب: المواقف فى علم الكلام و الاخر شرح مختصر الاصول للحاجبى.
8ـ سعد الدين التفتازانى (م 791 و 793هجرى): ولد بتفتازان من توابع مدينة نساء فى خراسان، و مات فى سمرقند، وله كتاب معروف فى الكلام اسمه (شرح المقاصد) فكان هذا الشرح و شرح المواقف من حيث الجامعية و الشمول لكلام الاشعرية كفرسى رهان، والاخر من كتابه المعروف فى هذا الضمار كتاب شرح العقائد النسفية و من افاضل اساتذته فى هذا الفن القاضى عضدالدين الايجى و الاخر قطب الدين الرازى (م 776) الذى يسمى بصاحب المحاكمات.
9ـ السيد الشريف الجرجانى (م 816هجرى): ولد فى قرية تاكو: قرب اسفرآباد و مات فى شيراز، و كان من كبار متكلمى الاشعرية و هو ادق من التفتازانى من حيث النظر[24] و شرحه على المواقف، يعد من اشهر المتون الكلامية.
10ـ علاءالدين على بن محمد القوشجى (م 879 هجرى) فلكى رياضى متكلم بارع، وله شرح مشهور شائع على تجريد الاعتقاد، تاليف المحقق الخواجه نصيرالدين الطوسى، وشرحه من مصادر العقائد و الاراء الاشعريه، فكان كلما وقف على مسائل تختلف فيها الامامية ينقد اراء المصنف فى ذلك بكل صراحة، ولكنه انصف فى بعض الموارد الاخرى حيث شرح العبارة بسندها و لم يزد عليها شيئا.
الماتريدية
لقد اشرنا فى الفصل المتقدم، انه فى الوقت الذى نصب ابوالحسن الاشعرى راية المقاومة امام المعتزلة فى البصرة، بداء الشيخ ابومنصور الماتريدى، بالنهضة و الحركة النضاليه المشابهه لذلك فى شرق المحيط الاسلامى، و اذ كان لمدرسة الماتريدية اتباع واصحاب من اهل السنة (الحنفية) و حلت متونهم الكلامية محلا للبحث و موضعا للدراسه والتدريس، فيجب علينا فى هذا الفصل ان ندرس هذه المدرسة الكلامية.[25]
1ـ لمحة عن حياة الماتريدى و آثار العلمية:
ولد فى ماتريد قرية من قرى سمرقند، و توفى فى موطنه عام 333، ولم يعلم دقيقا تاريخ ولادته،ولكنا نتمكن ان نقول على وجه التقريب بملاحظة تاريخ وفاة احد مشايخه انه ولد عام (248) او ما يقاربه، وقد كان له مقام عال و منزلة سامية فى مختلف الحقول الدينية، نظير: الفقه، و الاصول و التفسير و الكلام، ولكن ما اقلت عناية المترجمين به، وماتكلموا حول شخصيته العلمية و الاجتماعية، فى حين انهم بذلوا العناية الموكدة بذكر معاصره ابى الحسن الاشعرى.
2ـ مدرسة الماتريدية:
وان كان الماتريدى يخالف المعتزلة فى كثير من آلاراء و المسائل الاعتقادية، ولكن منهجه الكلامى اقرب من الاشعرى الى المعتزلة، فانه قد اعطى للعقل سلطانا كبيرا، كما اعترف ايضا بالتحسين و التقبيح العقليين فى الجملة، لذا قالوا: ان الماتريدية برزخ يتوسط بين الاشعرية و المعتزلة، قال ابوزهرة:ان منهاج الماتريدية للعقل كبير فيه من غير اى شطط اواسراف، و الاشاعرة يتقيد بالنقل و يويدونه بالعقل، حتى انه يكاد الباحث يقرر ان الاشاعرة فى خط بين الاعتزال و اهل الفقه و الحديث، و الماتريدية فى خط بين المعتزلة و الاشاعرة[26]كما ان الشيخ محمدزاهد الكوثرى قد ذكر هذا الامر فى مقدمة كتاب تبيين كذب المفترى فقال: الماتريدية هم الوسط بين الاشاعرة و المعتزلة واهم العوامل التى جعلت الماتريدى يجنح الى العقلية، كونه تابعا لمذهب ابى حنيفة، فقد وافق آراءه فى الفقه الاكبر و الاصغر، وان اباحنيفة قدقال بحجية العقل حتى فى الفقه الاصغر(الفروع)، بل اعطى له سلطانا كبيرا وفسح له مجالا واسعا. قال ابن تيميه: و اما الحنيفية فالغالب عليهم القول بالتحسين والتقبيح العقليين، وذكروا ذلك ايضا عن ابى حنيفة[27] كما اشار الى ذلك ايضا التفتازانى فى شرح المقاصد فقال: ذهب بعض اهل السنة و هم الحنفية الى ان حسن بعض الاشياء وقبحها مما يدرك بالعقل كما هو راى المعتزلة كوجوب اول الواجبات (معرفة الله)، و وجوب تصديق النبى و حرمة تكذيبه، وكحرمة الاشراك بالله، و نسبة ما هو فى غاية الشناعة اليه، ولانزاع فى ان كل واجب حسن، و كل حرام قبيح، ثم او عز الى ما يفترق به الحنفية عن المعتزلة فى هذا المضمار فقال: الا انهم لم يقولوا بالوجوب او الحرمة على الله[28] تعالى
وقال فى شرحه على العقائد النسفية فى ذيل عبارة المصنف: وفى ارسال الرسل حكمة: و فى هذا اشارة الى ان الارسال واجب، لا بمعنى الوجوب على الله، بل بمعنى ان قضية الحكمة تقتضيه لما فيه من الحكم و المصالح[29]
وقال البياضى فى اشارات المرام ان الماتريدى اعترف اجمالا بالحسن و القبح العقليين بمعنى ان العقل يدرك ان بعض الاعمال تستحق المدح و الثواب كما تستحق بعضها الاخر الذم و العقاب غير ان هذا ليس بايجاب من العقل، وقد قال بقصور العقل ايضا عن ادراك كيفية الثواب والعقاب[30]
والذى ينبغى للذكران ما سلمها الحنفية و الماتريدية فى مسالة الحسن و القبح العقليين يوافق تماما مع نظرية العدلية (المعتزلة و الامامية) فيها، و انكار الوجوب على الله انما هو ناجم من التفسيرالخاطىء عن ذلك. و من الخلط بين الوجوب الكلامى و الوجوب الفقهى فالوجوب الكلامى هوان العقل ـ بمقتضى ادراكه الجلى القاطع لصفات الله الكمالية، كالعدل والحكمة و الرحمة ـ يرى ان صدور الافعال الصالحة منه تعالى امر محتوم و واجب، وان الافعال الطالحة ممتنعة الصدور عنه تعالى، و لكنه لم يوجب و لم يحرم عليه تعالى اى فعل قط، و بعبارة اخرى، ان العقل شانه الادراك و الكشف لاالجعل و الوضع و الاعتبار[31] فالمقصود من الوجوب الكلامى فى مسالة الحسن و القبح العقليين اذن، هو عين ما ذكره التفتازانى فى عبارة النسفى.
بناءا على هذا، فالقول بان مدرستى الماتريدية الاشعرية متفقتان فى اهم المسائل الكلامية ـ كما قال محقق كتاب التوحيد ـ و ان الماتريدية خط وسط بين الاشاعرة والمعتزلة، بعيد عن الحق و الواقع كل البعد، نعم، و لاننكر ان الماتريدى يخالف المعتزلة فى قسم من المسائل، غير ان الاختلاف فى المسائل الفرعية ليست بمعيار للمقارنة، فان المعتزلة انفسهم تختلف آراوهم فى مثل هذه المسائل و عمدة قواعد المعتزلة قاعدة الحسن والقبح العقليين، وهى ـ كما اتضح سابقا ـ مما اقر بها الماتريدية ـ ايضا، و الاشعرية من المخالفين لتلك القاعدة ومتفرعاتها مخالفة عنيفة.
ان الماتريدى كان حنفى المسلك فى كلا الحقلين الفقه الاكبر و الفقه الاصغر، فكذلك اساتذته، كلهم اتباع لابى حنيفة و خريجو مدرسته، ورواة آرائه و حماتها، وقد نقل الشيخ محمد زاهد الكوثرى اساتيد الكتب المروية عن ابى حنيفة، فوجدنا فيها مشايخ الماتريدى من رواتها ايضا، ثم قال الكوثرى بعد عرض الاساتيد: فعلى ضوء تلك الرسائل سعى اصحاب ابى حنيفة و اصحاب اصحابه فى ابانة الحق فى المعتقد… الى ان جاء امام السنة فى ماوراءالنهر ابومنصور محمدبن محمد الماتريدى المعروف بام الهدى فتفرغ لتحقيق وتدقيق دلائلها فارضى بمولفاته جانبى العقل و النقل فى آن واحد.[32]
فلم يكن الماتريدى مبدعا لنظرية، بل انما هو من دعاة الحنفيه، و دوره هو احكام الاراء الكلامية لابى حنيفة، واتقانها، ولما كانت همومه مرتكزه على آراء ابى حنيفة الكلامية ونشرها، و قد بذل فى هذا الطريق جهودا كبيرا و عظيمة، فتصدر للامامة فى المذهب الكلامى، فاشتهر علماء الكلام الحنفى منذ ذلك الحين با الماتريدية، ولكن الامامة فى الفقه تظل باقية لابى حنيفة، فاصحاب النظر و اهل الراى فى الفقه الحنفى الذين جاءوا من بعده فقد سموا با الحنفية.
3ـ اعلام الماتريدية:
لنتعرف فى هذا المقام اجمالا على بعض الشخصيات الماتريدية البارزة المعروفة:
1ـ ابواليسر محمدبن عبدالكريم البزدوى،ـم / 493هجرى): مولف كتاب اصول الدين، فقد اقتفى بابى حنيفه فى الفقه، و تمسك بالماتريدية فى الكلام.
2ـ ميمون بن محمد النسفى(م 508 هجرى) و هو من اعاظم انصار ذلك المذهب، فهو عند الماتريدى، كالبا قلانى بين الاشاعرة فى نصرة المذهب و نشره،
3ـ عمربن محمد النسفى(م 537 هجرى) المعروف بنجم الدين. مولف العقائد النسفية الكتاب المعروف الذى يعد من الكتب لكلام اهل السنة،
4ـ كمال الدين محمدبن همام الدين(م 816 هجرى) صاحب كتاب المسايرة فى العقائد المنجية فى الاخرة فى علم الكلام
5ـ كمال الدين احمد البياضى، احد علماء القران الحادى عشر، مولف كتاب اشارات المرام من عبارات الامام
6ـ محمد زاهدبن الحسن الكوثرى المصرى: وله خدمات صادقة قيمة فى نشر الثقافة الاسلامية، ومكافحة الحشوية و الوهابية،
2ـ فرق الشيعة:
لقد ذكرت فى كتب الملل و النحل فرق و طوائف كثيرة للشيعة حتى قيل ان الحديث المعروف الوارد فى افتراق الامة الى ثلاث و سبعين فرقة، ينطبق على فرق الشيعة، ولكن تجب العناية:
اولا: بان بعض هذه الفرق كالغلاة وشعبها و غيرها، ليست بالحقيقة من الشيعة، فقد كفرها علماء الشيعة.
وثانيا: ان الانشعاب فى مذهب الشيعه انما هو قائم على الاختلافات بينهم فى الامة التى تميز مدرسه الشيعة عما سواها و اما الاختلاف فى المسائل الاعتقادية الاخرى فلم يعد ميزانا لمعرفة فرق الشيعه على هذا فلا يصبح ذكر الكثيرة من هذه الفرق كالهشامية و اليونسية والفعمانية و غيرها و عدها من شعب الشيعة.
و ثالثا: ان الكثيرة من هذه الفرق التى ذكرت عنها فى مسالة الامامة ـ مع فرض حدوثها حقيقة ـ لم تدم الا مدة قصيرة، ثم انقرضت وزالت، كمانلاحظ مثلا، فيما بعد وفاة الامام العسكرى(عليه السلام) فقد رويت للشيعة اربعة عشر فرقه، و لم يبق منها اثر يشهد، بل ولم حدوثه وتحققه بعد، لذا قال الشيخ المفيد بعد استعراضه لتلكم الفرق الاربعة عشرة: وليس من هولاء الفرق التى ذكرناها فرقة موجودة فى زماننا هذا، وهو سنة ثلاث و سبعين و ثلاثمائة الا الامامية الاثنا عشرية القائلة بامامة ابن الحسن المسمى باسم رسول الله(صلى الله عليه وآله) ومن سواهم منقوضون، و انما الحاصل منهم حكاية عمن سلف و اراجيف بوجود قوم لاتثبت.[33]
و كذلك المحقق الطوسى بعد الاشارة الى الفرق التى نقلها كتب الملل و النحل للشيعة، فقال: (هذه اختلافات رويت عن الشيعة القائلين بامامة على، و اكثرها ممالم يوجد له اثر غير المكتوب فى كتب غير معتمد عليها، و بعض هذه الفرق خارجون عن الاسلام، و بعض الباطنية)[34]
فعلى كل تقدير، فالتى تحقق وجودها بتاتا، ولم تزل موجودة حتى اليوم، الامامية (الاثناعشرية) و الزيدية و الاسماعيلية، والتى تمثل الاكثرية الشيعة الامامية، و الغرض من عقد هذا الفصل دراسة مدرستهم الكلامية، ولكن قبل ذلك لابد و ان نتعرف على سبيل الاجمال و الاختصار على الفرقتين الاخريين الزيدية و الاسماعيلية و اختلافهما مع الامامية.
الف) الشيعه الزيدية:
الزيدية هم القائلون بامامة زيدبن على بن الحسين بن على بن ابى طالب(عليهم السلام) خرج زيد بالكوفة على بنى امية فى عهد حكومة هشام بن عبد الملك، و بايعه جمع من الناس، ولكن تركوه عند المكافحة مع جيش يوسف بن عمرو الثقفى امير العراق و استشهد زيد سنة 121 و122 هجرى.
وبايعت الزيدية بعده لابنه يحيى و كان من الابطال الاشداء، فلما قتل ابوه انصرف الى بلخ فاقام بها مطمئنا، فطلبه امير العراق يوسف بن عمرو، فقبض عليه نصربن سيار، ثم خلى عنه بامر الوليد، ثم ثار فبعث نصر بن سيار، سالم بن احوز فى طلبه فلحقه بجوزجان، فقاتله فرمى يحيى بسهم اصاب جبهته فسقط قتيلا سنة125 هجرى.
و قد فوض الامر بعده الى محمد و ابراهيم الامامين ابنى عبدالله بن الحسن المثنى، خرجا بالمدينة ومضى ابراهيم الى البصرة و المجتمع الناس عليهما، و قتلا بامرالمنصور العباسى، قتل ابراهيم بالبصرة و محمد بالمدينة سنة 145 هجرى.
ولم ينظم امر الزيدية بعد ذلك حتى ظهر بخراسان صاحبهم ناصر الاطروش، فطلب مكانه ليقتل فاختفى و اعتزل الامر، و صار الى بلاد الديلم و الجبل ولم ينتحلوا بدين الاسلام بعد، فدعا الناس دعوة الى الاسلام على مذهب الزيدية، فدانوا بذلك و نشاورا عليه وبقيت الزيدية فى تلك البلاد ظاهرين.
وقالت الزيدية فى الابتداء بجواز امامة المفضول مع حضور الافضل، وعلى هذا الاساس برروا خلافة ابى بكر و عمر، ولكن لم تمض مدة الا وقد اسقط اكثرهم اسم هذين الخليفتين من اسماء ائمتهم، و ابتدا بالامام على(عليه السلام). وحسب ما يقال ان الزيدية تتبع المعتزلة فى الاصول و توافق فقه ابى حنيفة فى الفروع[35]
و شرائط الامامة عندهم خمسة:
احدها: ان يكون من احد السبطين اعنى من بنى الحسن او من بنى الحسين.
ثانيها: ان يكون شجاعا، لندا يهرب فى الحرب.
ثالثها: ان يكون عالما ليفتى الناس فى الشرع.
رابعها: ان يكون ورعا لئلا يتلف بيت المال.
خامسها: ان يخرج على الظلمة شاهرا سيفه و يدعوا الى الحق.
وقالوا: كان الامام عليا بالنص الخفى[36] ثم الحسن و الحسين لقوله(عليهم السلام) الحسن و الحسين امامان، قاما اوقعدا، ولم يكن زين العابدين امامالانه ما خرج، و كان ابنه زيد اماما، وهم ينسبون اليه.[37]
فهم وافقوا الامامية الاثنى عشرية فى ان الامامة واجبة على الله و ان طريق اثباتها هو النص، وخالفوهم فى اعتبارهم النص الخفى فى ذلك، وفى انها ثابتة فى اولاد الحسن(عليه السلام)وجواز خلوالزمان عن الامام، وقيام امامين فى بقعتين متباعدتين اذا استجمعا شرائط الامامة.[38] وكانت لهم فرق كثيرة، قال الشهرستانى: هم اصناف ثلاثة، جارودية، وسليمانية، وبترية و الصالحية منهم و البترية على مذهب واحد.
ب) الشيعة الاسماعيلية:
الاسماعيلية هم طائفة من الشيعة الذين قالوا بعد وفاة الامام جعفر الصادق(عليه السلام) بامامة ولده اسماعيل وقد توفى اسماعيل فى زمن ابيه، غير انهم فسروا امامته باحدى الوجوه الثلاثة التالية، فانشعبت لاجلها الاسماعيلية الى ثلاث طائف:
1ـ فقد انكرت طائفة منهم موت اسماعيل فى حياة ابيه، وقالوا كان ذلك على وجه التلبيس من ابيه على الناس لانه خاف فغّيه عنهم، وزعموا ان اسماعيل لايموت يملك الارض و انه هو القائم، فسموا بالاسماعيلية الخالصة.
و كان اسماعيل رجلا صالحا و كان اكبر اخوته و كان ابوه الصادق(عليه السلام) شديد المحبة له والبرابه مات سنة 133 فحزن عليه ابوه حزنا شديدا وتقدم الى سريره بغير حذاء ولارداء. فامر بوضع سريره على الارض قبل دفنه مرات كثيرة وكان يكشف عن وجهه و ينظر اليه، ويريد بذلك تحقيق امر وفاته عند الظانين خلافته له من بعده و ازالة الشبهة عنهم فى حياته.
2ـ واعتقد جماعة ان الامامة الحقة هى لاسماعيل مقرين بموته، فزعموا ان الامام بعد جعفر بن محمد، ابنه محمد، وقالوا ان الامر كان لاسماعيل فى حياة ابيه، فلما توفى قبل ابيه جعل جعفر بن محمد الامر لمحمد بن اسماعيل، وكان الحق له ولايجوز غير ذلك، لانها لا تنتقل من اخ الى اخ بعد الحسن و الحسين(عليهم السلام) ولا تكون الا فى الاعقاب، وسمى هولاء الجماعة المباركية برئيس لهم كان يسمى المبارك مولى اسماعيل بن جعفر.
ومنهم من زعم ان الذى نص على امامة محمد هو ابوه اسماعيل لاجده جعفر الصادق(عليه السلام).
ثم ان محمد بن اسماعيل هذا هو الذى دس على اخيه الامام موسى بن جعفر(عليه السلام) عند هارون الرشيد و قال:
يا اميرالمومنين خليفتان فى الارض، موسى بن جعفر بالمدينة يجى له الخراج، و انت بالعراق يجىء لك الخراج، فامر الخليفة له بمائة الف درهم فلما قبضها وحملت الى منزله اخذته الريح فى جوف ليلة فمات…
3ـ واعتقد آخرون ان اسماعيل و ان ادركه فى زمن ابنه، الاانه امام، و محمدبن اسماعيل ومن جاء بعده من هذه السلالة ائمة ايضا.[39]
وانقرض الفريقان الاولان بعد زمن وجيز، وبقيت الفرقة الثالثة حتى وقتنا الحاضر وقد انشعبت انشعابات عدة، منها: الباطنية، و النزارية، و المستعلية، و الدرويزية.
الاوصياء لابراهيم، و النبى عيسى سابع الاوصياء لموسى، محمد(صلى الله عليه وآله) سابع الاوصياء لعيسى، و محمد بن اسماعيل الوصى السابع لمحمد(صلى الله عليه وآله).
الشيعه الاثناعشرية:
ان اكثرية الشيعة هم الاثناعشرية، و كان بداية نشوءهم هو الاعتراض والانتقاد لمسالتين اساسيتين من المسائل الاسلامية، و المسالتان هما: الحكومة الاسلامية والمرجعية العلمية وتعتقد الشيعة بان المسالتين من حق اهل البيت خاصة.
وقالوا: ان الخلافة الاسلامية بما فيها من ولاية باطنيه و قيادة معنوية و هما جزاءان لاينفكان عنها، من حق على و اولاده(عليهم السلام)، بموجب تصريح النبى(صلى الله عليه وآله) و سائر ائمة اهل البيت(عليهم السلام)، انهم اثنا عشر اماما.
وتومن الشيعة ايضا، ان التعاليم الظاهرية للقران و التى تعتبر من احكام الشريعة، تشتمل على الحياة المعنوية الكاملة ولها اصالتها و اعتبارها، ولايعتريها اى نسخ حتى قيام الساعة و يجب ان توخذ هذه الاحكام و القوانين عن طريق اهل البيت، لاغير، ومن هنا يتضح:
ان الاختلاف الاصلى بين الشيعة الامامية و الشيعة الزيدية، هو ان الشيعة الزيدية غالبا لاتحصر الامامة فى اهل البيت، و لاتقتصر فى الاثنى عشر، و لاتتبق فقه اهل البيت، على خلاف الشيعه الامامية.
والفارق الاساسى بين الشيعة الاثنى عشرية و الشيعة الاسماعيلية هوان الاسماعيلية تعتقد بان الامامة تدور على (سبع) ولم تختم النبوة فى محمد(صلى الله عليه وآله)، ولاتمتنع من تغيير او تبديل احكام الشريعة و حتى ارتفاع اصل التكليف، خاصة على قول الباطنية، على خلاف مذهب الشيعة الامامية الذى يعتقد بخاتمية النبوة بمحمد(صلى الله عليه وآله)و انه خاتم الانبياء، وله اثنا عشروصيا، وتعتبر ظاهر الشريعة غير قابل للنسخ و يثبتون للقران ظاهرا و باطنا.[40]
3ـ تاريخ ظهور كلام الامامية:
ان تاريخ ظهور الكلام الامامى يرجع الى اوائل ايام رحلة النبى الاكرم(صلى الله عليه وآله)، لان اولى مسالة ثارت فى ذلك العصر عند المسلمين مسالة الامامة و الخلافة، و قد ابديت فيها نظريتان، احداهما ان خليفة النبى و امام المسلمين لابد و ان يكون منصوصا من قبله سبحانه، فينصبه اماما بوساطة النبى، و الاخرى تزعم انه لم يرد نص قط على ذلك، بل الامر يعمد الى انتخاب و اختيار المسلمين انفسهم، فكان على(عليه السلام) و جمع من كبار المهاجرين والانصار على النظرية الاولى،
وقال العلامة الطباطبائى فى هذا المضمار: و كان للشيعا قدم فى المتكلم، كان اول طلوعهم بالتكلم بعد رحلة النبى(صلى الله عليه وآله) و كان جلهم من الصحابة كسلمان وابى ذر، والمقداد وعمار وعمروبن الحمق، و غيرهم و من التابعين كرشيد و كميل و ميثم و سائر العلويين، ابادتهم ايدى الامويين، ثم تأصلوا و قوى امرهم ثانيا، فى زمن الامامين: الباقر و الصادق(عليهم السلام)، و اخذوا بالبحث و تاليف الكتب و الرسائل.[41]
و اذا قطعنا النظر عن مسالة الامامة، فان الشيعة الاماميه تصدرت الصف الامامى الاول ايضا فى المسائل الاخرى، كالصفات الالهية، و القضاء، والقدر، والجبر والاستطاعة والتفويض وهذه كلها من الابحاث الكلامية القديمة، فان اول من حمل الرسالة الكلامية فى هذه المجالات و اجاب كل المسئولية و يعكسونها فى مواقف الحاجة و الضرورة، ثم اخذ بعده(عليه السلام)الامام الحسن و الحسين(عليه السلام) زمام المسئولية ثم جاء من بعدهم الامام زين العابدين وكذا ائمة الشيعة ـ الاخرون، فان كلا منهم كان استاذا معلما معصوما فى الكلام فى عصره، ورائدا فيه الجهاد الكلامى، وذابا صادقا عن العقائد الاسلامية الاصلية، كما ان كلا منهم ايضا قد ربى تلامذة و كوادر فيه هذا الصدد.
فكان كلام الشيعة ـ اذن ـ اسبق و اقدم تاريخا من جميع المذاهب الكلامية الاخرى، حتى القدرية (التى ظهرت فى النصف الثانى من القرن الاول الهجرى) و المعتزلة (التى تكونت فى بداية القرن الثانى الهجرى)، فقد قاومت الشيعة المشبهة و المجبرة دفاعا عن الاصلين التوحيد و العدل الالهى، و ائمة كلام الامامية قد سلكوا هذا الطريق، و احكموا اسس الاصلين بالادلة العقلية الرصينة القويمة. فلا جل ذلك قالوا:(العدل و التوحيد علويان).
ان الامام عليا(عليه السلام) اول من فتح مصرعى باب التفكر و التدبر العقلى للمسلمين بعد القران الكريم، واوضح اصول المعارف والعقائد واتقنها، فقد قال فى باب التوحيد و العدل ـ وهما المحور الرئيس للابحاث الكلامية ـ مصرحا: التوحيد الا تتوهمه، و العدل الا تتهمه[42] وقال ابن ابى الحديد المعتزلى فى شرح هذا الكلام: هذان الركنان هما ركنا علم الكلام، وهما شعار اصحابنا المعتزلة، لنفيهم المعانى القديمة التى يثبتها الاشعرى و اصحابه، و لتنزيههم البارىء سبحانه عن فعل القبيح ثم اضاف قائلا: وجملة الامران مذهب اصحابنا فى العدل والتوحيد ماخوذ عن اميرالمومنين[43] وقال الامام على(عليه السلام)معربا عن قدرة العقل على معرفة صفاته تعالى: لم يطلع العقول على تحديد صفته ولم يحجبها عن واجب معرفته[44]
وقال ابن نديم:اول من تكلم فى مذهب الامامة على بن اسماعيل بن ميثم التمار(م 179): ولعلى من الكتب، كتاب الاستحقاق[45] وقد كان معاصرا للنظام وابى الهذيل وقد كلمهما وناظرهما.[46]
ومن ابرز وجوه متكلمى الشيعة فى عصرى الامام الصادق و الامام الكاظم(عليهم السلام) هشام بن الحكم، وله رسائل و كتب عديدة فى الكلام، منها كتاب التوحيد كتاب الامامة، كتاب الجبر والقدر، كتاب الاستطاعة و الرد على اصحاب الاثنين وغير ذلك.
فكلام الامامية ـ اذن ـ متقدم على المذاهب الكلامية الاخرى من جهتين، جهة تاريخ التكون و طرح المباحث الكلامية، وجهة وضع القواعد و المبادى الكلامية، واما الشيعة من حيث التاليف و الكتابه فى الكلام اذا لم ندع تقدمهم عليهم فليسوا على الاقل بمتاخرين عنهم.
4 ـ منهج كلام الامامية:
ان كلام الامامية يتبع اسلوب الاستدلال العقلى، ويجل الفكر العقلى كثيرا، غير انه يتفاوت مع كلام المعتزلة فى انه يستند الى العقل البشرى العادى فحسب، بل جعل العقل الافضل الا على (عقل معلمى الكلام المعصومين) لنفسه سندا، فلاجل هذا اصبح مصونا عن كل زلة و حيادة فى توضيح المعارف الدينية، وحل المعضلات الكلامية، و استقام على الطريق الوسط المعتدل، و تمسك بالامر بين الامرين فى كل موضع و موقف.
قال الاستاذ الشهيد المطهرى(رحمه الله): لم يكن العقل و الفكر الشيعى مضادا للفكر الحنبلى فقط الذى ينكر الاستدلال فى العقائد الدينية اساسا، و الفكر الاشعرى الذى سلب عن العقل اصالته، و جعله خاضعا لظواهر الالفاظ. بل كان الفكر الشيعى يعارض الفكر الاعتزالى وجميع عقلياته ايضا، اذا الفكر المعتزلى و ان كان عقليا، غير انه جدلى لابرهانى، لذا كانت الفلاسفة الاسلاميون معظمهم شيعة.
و الحقيقة ان المباحث العقلية العمقية فى المعارف الاسلامية انما طرحها بادى الامر على(عليه السلام) فى خطبه و ادعيته، و مناظراته، ولها اسلوب و روح خاص يتفاوت تماما مع الاساليب الكلامية للمعتزلة و الاشعرية، و حتى مع كلام بعض علماء الشيعة المتاثرين بالكلام السائد فى عصرهم[47] ان التحقيق حول الابحاث الكلامية فى الاحاديث الشيعية قائم على ادق الاساليب العقلية و البرهانية ولذا تعد الاحاديث الشيعية فى مجال المعارف الدينية، من المصادر و المنابع الرئيسيه لمتكلمى الامامية و حكمائهم، وكان تطور الكلام وتكامل الفلسفية الاسلامية، رهن الاستلهام من هذه الافكار الشامخة السامية.
وقال العلامة المطهرى معربا عن تاثير نهج البلاغه على الفلسفة الاسلامية، ان لنهج البلاغة فى تاريخ فلسفه الشرق دورا عظيما، وقد كان صدرالمتالهين الذى احدث ثورة فى الحكمة الالهية متاثرا بكلمات الامام على(عليه السلام)، فان اسلوبه فى مسائل التوحيد يبتنى على اساس الاستدلال من الذات على الذات و الصفات، وهذا يبتنى على انه سبحانه صرف الوجود، و هذا بدوره يبتنى على اساس سلسلة من الاصول العامة فى فلسفة العامة.[48]
وقال العلامة الطباطبائى فى تمايز كلام الشيعة عن كلام العتزلة: فقد اخطاء بعض الناس، فعد الطائفتين اعنى الشيعة و المعتزلة ذواتى طريقة واحدة فيه البحث الكلامى، فان الاصول المروية عن ائمة اهل البيت(عليهم السلام)، وهى المعتبرة عند القوم لاتلائم مذاق المعتزلة فى شيىء.
5ـ تطورات كلام الامامية:
قد مرت على كلام الامامية منذ ابتلاجه الى حد الان مراحل و تطورات عدة، و لاريب انها معلومة لاسباب و علل، اهمها عبارة عمايلى:
1ـ الظروف الاجتماعية و السياسية الخاصة.
2ـ بروز المفكرين الاجلاء و مبتكريهم.
3ـ احتكاك الكلام بالفلسفة و تاثير المصطلحات و القوانين الفلسفية فى علم الكلام. ودونك شرح العوامل المذكورة.
الف) التغيرات السياسية الاجتماعية:
فقد مر مذهب الشيعة و كلام الامامية فى هذه الجهة بمراحل متعددة مختلفة.
1ـ عصر الخلفاء:
قلنا فى الابحاث السابقة ان قيادة الامة الاسلامية فى مجال العقائد و المسائل الدينية كانت للامام على(عليه السلام) بعد ارتحال النبى الاكرم(صلى الله عليه وآله) لما كانت فيه من المؤهلات و المميزات المختصة به. و من هنا كانت آراوه العقادية فاصلة بين الحق و الباطل، مقبولة لدى الجميع، فلم يكن انذلك اى مانع يمنع الشيعة من الرجوع الى الامام و اخذ المعارف عنه، و قد اوضح اميرالمومنين(عليه السلام)معارف التوحيد و معالمه و قد ارتوى العديد الكثير من العلماء فى حقول، التفسير، و الفقه و الكلام من بحر علومه الواسعة.
2ـ عصر الامويين:
لقد اشتدت اوضاع السياسة على الشيعة فى اغلب المرحلة الثالثة(عصر الامويين) فقد عانوا من قبل الحكام الامويين الكثير من الويلات و الكواره جسميا و روحيا، ولكنهم مع ذلك لم يتغاضوا عن رسالتهم الدينية و الكلامية. وصاغوا رسالتهم قوالب العمل مستمدين من هدى معلمى الكلام المعصومين(عليهم السلام) ولقد تحسنت نسبياالظروف السياسية لاهل البيت والشيعة فى اخريات سلطة الامويين و بداية حكومة العباسيين (اى فى عصر الامام الباقر(عليه السلام)والامام الصادق(عليه السلام)اذا الحكومة الامويه انذاك تميل الى الانقراض والسقوط، وعاش حكامها مضطر بى البال و الفكر، فلم تسنح لهم الفرصة و المجال لاعمال العنف، والضغط على العلويين، كما ان آل البيت و شيعتهم كانوا متمتعين فى بداية حكومة العباسيين بظروف جيدة و مرغوبة لعدم الاستقرار و الثبات اللازم للحكومة من جانب و لانتصار العباسيين على الامويين فى ظل اعلانهم الدفاع عن العلويين من جانب آخر. فبدات من هنا النهضة العلمية و الثقافية الشيعية تتفتح ازهارها و يتسع نطاقها على يدى الامام الباقر و الامام الصادق(عليهم السلام).
3ـ من عصر المنصور الى هارون:
علاالعلويون فى عصر المنصور يعيشون الظرف الحرج و الضغط السياسى الخانق كما قال السيوطى: و كان المنصور اول من اوقع الفتنة بين العباسيين و العلويين و كانوا قبل شيئا واحدا، و فى سنة مائة و خمس و اربعين (145 بعد مضى تسع سنوات من حكومة المنصور) كان خروج الاخوين محمد وابراهيم ابنى عبدالله ابن حسن بن الحسن بن على بن ابى طالب، فظفربهما المنصور فقتلهما و جماعة كثيرة من آل البيت[49]
قال محمد الاسقنطورى: دخلت يوما على الدوانيقى اى المنصور، فوجدته فى فكر عميق، فقلت له ما هذا الفكر؟ قال: قتلت من ذرية فاطمة بنت محمد الفا او يزيد، وتركت سيدهم و مولاهم[50]، اى الامام الصادق(عليه السلام).
ان الايذاءات و الاعذابة التى مارسها المنصور على العلويين فى الزنزانات الحالكة المخيفة المهيبة كرصفهم مع الاحجار فى الجدران. مشهورة و مسطورة فى كتب التاريخ.[51]
4ـ من عصر الامين الى الواثق ـ 193 ـ 232:
ثم تولى الحكم بعد هارون ابنه محمد الامين ودامت خلافته اربع سنين و اشهر، قال ابوالفرج الاصفهانى فى مقاتل الطالبين: كانت سيرة الامين فى امر آل ابى طالب خلاف من تقدم، لتشاغله بما كان فيه من اللهو و الادمان له، ثم الحرب بينه و بين المامون حتى قتل.
فقتل المامون اخاه الامين اثر حدوث الخلاف المودى الى الحروب بينهما، فاستولى على عرش الخلافة تقريبا عشرين سنة(198 ـ 218) .
وانبسط التشيع فى عهد المامون وانتشر فى كل بقعة من بقاع البلاد الاسلامية حتى امتدت جذوره الى البلاط الملكى، فكان الفضل بن سهل ذوالرياستين وزير المامون شيعيا، وطاهربن الحسين الخزاعى قائد المامون من كثرة الشيعة، واقبال الناس على الامام الرضا، ونقمتهم على ابيه الحاكمين من اسلافه، حاول ان يداهن العلويين، ويستميل الراى العام، فاظهر التشيع كذبا ونفاقا، واخذ يدافع ويناظر عن امامة على اميرالمومنين، وانه احق بالخلافة وافضل من ابى بكر وعمربل طرح حتى مسالة تسليم الخلافة و ولاية العهد الى الرضا(عليه السلام)، وهولاء يومن بشيىء الا بتثبيت ملكه وتوطيد سلطانه، فدس المامون السم للامام الرضا فمات(عليه السلام) مسموما، شهيدا، ولكن ـ على اى تقديرـ فان المداهنة الظاهرية هذه قد ادت الى تكون الارضية الصالحة انفساح المجال لنشر عقائد الشيعة و ترويجها نسبيا.
و مضافا الى ذلك فان هناك عاملا آخر فى هذا المقام، وهو نقل الكتب الفلسفية والعلمية الطائلة الغفيرة من اللغة اليونانية والسريانية وغيرها الى اللغة العربية، وسرعان ما دفع ذلك المسلمين نحو العناية بالعلوم العقلية و الاستدلالية، و قد كان المامون معتزليا ايضا، فلاجل ولعه و علاقته بالابحاث العقلية، فقد اعطى للمباحث الكلامية فى مسالة الاديان والمذاهب حرية، فانتهز من هذه الفرصة علماء الشيعة و متكلموهم، فنشروا مذهب اهل البيت واوضحوا تعاليمه.
و كانت الاوضاع السياسية الحاكمة فى عصر المعتصم (م 227) والواثق (232) والتى مورست على اهل البيت مماثلة تقريبا لما فى عهد المامون فهما ايضا كانا متمايلين الى الكلام الاعتزالى، و كانا يوافقان الابحاث الاستدلالية و الكلامية، كما ان الاسئلة الكثيرة فى الكلام و الدين التى قد سئلت عن الامام الجواد(عليه السلام) دليل على صلة الامة بامامها بالحق مسموحة غير منهية فى عصر المعتصم، وان كان يكن فى قرار نفسه الحسد و الحقد على الامام(عليه السلام)،وحيث لم يقوكتمان مايسره من الضغينة امر بقتله(عليه السلام) وبعد ان استشهد(عليه السلام)احتشدت الشيعة على الدار واستخرجوا جنازته و السيوف على عواتقهم و قد تعاقدوا على الموت لان المعتصم حاول ان يمنعهم عن تشييعه، و تعرف من مثل هذه الحادثة كثرة الشيعة و قوتهم ذلك اليوم فى بغداد[52].
5ـ عصر المتوكل و ما بعده:
ولما اعتل المتوكل منصة الحكومة(232 ـ 247) تغيرت الظروف السائدة، وعاد التنكيل والعداء على العلويين يتظاهر ويتجدد، وعد الارتباط باهل البيت(عليهم السلام) جرما و عصيانا عظيما، هذا، كما لايخفى على احد امره[53]بهدم قبر الامام الحسين(عليه السلام) ومنعه الناس من زيارته، ولم تكن خصومة المتوكل هذه خاصة على الشيعة، بل كان يحارب الفلسفة والكلام والعقلية ايضا، قال جرجى زيدان: فقد اخذ المتوكل منذتولى الخلافة فى مناواة اصحاب الفلسفة واصحاب المنطق و الراى، وكان شديد الوطاة عليهم[54]
ثم اضطربت بعد المتوكل اركان الحكومة العباسية، وحدثت نزاعات و اختلافات كثيرة تزعزع ثباتها، مهما قامت حواشيها و قواد احيانا بالجدل و القتل لنيل القدرة، وظلت الظروف هذه حاكمة على الخلافة العباسية حتى عصر المعتضد العباسى(247 ـ 279) وقد حكم خلال هذه المدة خمسة انفارهم:المنتصر، و المستعين، و المعتز، و المهتدى، و المعتمد، فما اخذ المعتضد زمام الخلافة استعادت اجهزة الخلافة العباسية مرة اخرى قوتها و قدرتها:
وكان يسمى السفاح الثانى لانه جدد ملك بنى العباس، وكان قد خلق وضعف، وكان يزول، وكان فى اضطراب من وقت قتل المتوكل[55]
لذا، وان لم يكن هناك شك وريب فى عداوة العباسيين و خصومتهم على اهل البيت(عليهم السلام)، ولكن عن الالتفات الى الاضطراب و التزلزل الحاكم على الجهاز العباسى فى ذلك العصر، وقيام الثورات فى نواحى وزوايا البلد الاسلامى، فلم تكن للعباسيين شرائط واوضاع صالحة لتشديد الاضطهاد و الضغط على العلويين، فقد تمتعوا بظروف احسن من عصر المنصور و هارن.
6ـ عصر البويهية، و الفاطمية و الحمدانية:
يعد القرن الرابع و الخامس الهجرى من حيث الظروف السياسية الحاكمة من احسن العصور و افضلها لتاريخ الشيعة، اذ ان للبويهيين (وكانوا شيعة) نفوذا عظيما، واثرا كبيرا فى الخلافة العباسية، و قد كان اولادبويه ـ وهم على و حسن و احمد ـ قد استولوا من قبل على فارس، فلما وصلت الخلافة الى المستكفى دخلوا بغداد سنة 333، و وجدوا طريقا الى مقر الخلافة، وكان الخليفة يجلهم و يكرمهم فسمى احمد بلقب معزالدولة، و الحسن ركن الدولة، وعلى عماد الدولة، وقد بلغت سلطة معزالدولة الذى تقلد منصب اميرالامراء و قدرته حداحتى يعين حقوق المستكفى و مقرراته، و بامره اغلقت الدكاكين و عطلت الاسواق والبيع و الشراء فى يوم عاشورا، واقيمت الماتم و مجالس العزاء، كما عقدت محافل كبيرة وعظيمة بمناسبة عيد الغدير.
وجملة القوان آل بويه لهم عناية خاصة و كبيرة فى نشر و ترويج مذهب الامامية الاثنى عشرية، و اجتهدوا فى ذلك ما استطاعوا، و الناس فى بغداد مركز الخلافة العباسية اغلبهم اهل السنة قبل الاعتلاء آل بويه. ولكن لما قويت شوكتهم و غلبتهم على الخلافة واعتلوا عليها بدات الشيعة تنتشر و تنبسط و تزداد و اقيمت فى عهدهم مراسم الشيعة الخاصة بكل عظمة.و قد كان الشيخ المفيد المتكلم البارع الذى يعيش فى هذا العصر، يعظم ويجل كثيرا، حتى خص له مسجد (براثا) فى منطقه الكرخ ببغداد و اشتغل فيه الشيخ بالصلاة، والموعظة، و التعليم و التدريس، حتى استطاع على ضوء منزلته العلمية و الاجتماعية ان وفق بين الفرق الشيعية المختلفة، ولم شعثهم، كما قد احكم و نشر الاراء و العقائد الشيعية الحقة.
و فى القرن الرابع استولى الفاطميون على مصر ايضا و استمرت حكومتهم حتى اواخر القرن السادس الهجرى (567) وقامت دولتهم على اساس الدعوة الشيعية، غير انهم ليسوا بامامية بل هم من الفرقة الاسماعيلية، ولكن مهما يوجد بين هاتين الفرقتين خلاف، ولكنهم يلتقون فى الشعائر الشيعية، بخاصة فى تدريس علوم آل البيت، و الثفقه بها، وحمل الناس عليها.
قال السيوطى: وفى سنة 357 ملك القرامطة دمشق، و عزموا على قصد ليملكوها، فجاء العبيديون[56] فاخذوها، وقامت دولة الرفض فى الاقاليم، المغرب و مصر و العراق، وذلك ان الكافور الاخشيدى صاحب مصرلما مات اختل النظام. وقلت الاموال على الجند فكتب جماعة الى المعزيطلبون منه عسكراليسلموا اليه مصر فارسل معه جواهرا القائد فى مائة الف فارس، فملكها و نزل موضع القاهرة اليوم و اختطها، وبنى دار الامارة للمعز و هى المعروفة الان بالقصرين، وفى سنة 385، قطع خطبة بنى العياس، وليس السواد البس الخطباء البياض و امر ان يقال فى الخطبة، اللهم صل على محمد المصطفى و على على المرتضى، وعلى فاطمة البتول و على الحسن و الحسين سبطى الرسول…الخ.
ثم فى ربيع الاخر سنة تسع و خمسين اذنوا فى مصر حى على خير العمل و شرعوا فى بناءالجامع الازهر ففرغ فى رمضان سنة 361، كما اذن بذلك ايضا فى دمشق بامر جعفر بن فلاح نائب دمشق للمعزبالله[57]
فمجل القول: ان الفاطميين قد بذلوا جهودا جبارة فى نشر العقائد و الشعائر الشيعية وفى تقويتها و تشييدها.[58]
الحمدانيون و الشيعة:
عادت راية دولة شيعية ترفرف خافقة فى القران الرابع الهجرى على معظم الاراضى الاسلامية وهى الدولة الحمدانية (293 ـ 391) و ابرز الحكام الحمدانيين و اشرفهم على بن عبدالله بن حمدان الملقب بسيف الدولة(303 ـ 350) وهو رجل العلم و محبه كما هو رجل الحرب، فقد قضى اكثر ايام سلطانه فى حرب الروم فكانت الغزوات التى بينه و بينهم تناهزالاربعين غزوة، فكانت سوريا ايام الحمدانيين مكتضة بالشيعة، كحلب و نواحيها، وبعلبك و قراها، و جبال عاملة و سواحلها، و قد اختلف على حلب خاصة من العلماء الجم الغفير ايام الحمدانيين و بالاخص بنوزهرة، ومن الذين لهم دورمهم فى ترويج و التشيع ونشره ابوالفراس (م 357) شاعر الحمدانيين البارز المعروف كما اشتهرت ميميته فى نصرة آل البيت(عليهم السلام) التى اطلعها:
الحق مهتضم والدين محترم *** وفىء ال رسول الله مقتسم[59]
ان الحمدانيين لم يكرهوا احدا على التشيع، ولم يغروه بالمال و المناصب، بل تركوا الناس يختارون لانفسهم ما يشاوون، ويعتقدون مايريدون، فانبرى الدعاة المخلصين، واعلنوا الحق فآمن به من آمن، حيث لاضغط و لااكراه، على عكس العباسيين والامويين، وصلاح الدين، اذانهم دعواالناس الى مذهب السنة عن طريق الشدة و الارعاب.
فقد كان الحمدانيون متفتحين و اصحاء فى عقولهم، وهذا الموقف مما جعلهم ملجاء وملاذا للعلماء و الفلاسفة و الادباء و رجال الفكر من جميع الاديان و المذاهب حتى ان رجال الفن من الروم كانوا يهربون من مليكهم قيصر الى سيف الدولة.[60]
الشيعه فى الدولة السلجوقية و الايوبية:
وظهرت الدولة التركية الكبرى فى اوسط القرن الخامس و تعرف بالدولة السلجوقية، فجاءت فى حال الحاجة اليها، لانها لمت شعث الممكلة العباسية ونصرت مذهبها(السنة) بعد ان كادت تضمحل بين يدى الشيعة فى مصر و الشام و العراق، ودامت دولتهم الى اواخر القرن السابع الهجرى.
ثم تاسست دولة اخرى مقتدرة فى النصف الثانى من القرن السادس (565) وتعرف بالدولة الايوبية وموسسها السلطان صلاح الدين الايوبى، و قد دامت سلطتها الى سنه 648 هجرى.[61]
ونحن لاننكر على صلاح الدين ماثره فى الحروب الصليبية، بل كل ذلك عندنا يستحق التقدير و التجليل غير ان تعصبه الشديد للسنة و عداوته العشوائية على التشيع خطاء عظيم لايمكن الاغماض عنه، فانه لما استولى على مصرناوء الفاطميين بالشدة و العنف، قال الخفاجى فى كتاب الازهر فى الف عام المجلد الاول، فى صفحه 58، مانصه:
فقد غالى الايوبيون فى القضاء على كل اثر للشيعة، اما سياسته مع الاسرة المالكة (الفاطميين) فقد كانت سياسة القمع و النذالة و الخسة با بشع صورها، فقد قبض على سائر من بقى من امراء الدولة، و انزل اصحابه فى دورهم فى ليلة واحدة، فاصبح فى البلد من العويل و البكاء ما يذهل…
وقد اعاد يوم قتل الحسين (يوم عاشورا) عيدا الذى كان قدسنه بنوامية و الحجاج، وابطل من الاذان حى على خيرالعمل وقد بلغت شدة و طاته على الشيعة حتى امر ان لاتقبل شهادة احد ولايقدم للخطابة ولاللتدريس الا اذا كان مقلدا لاحد المذاهب الاربعة.
بل حتى تلك المكتبات العظيمة التى قد انشاها الفاطميون و الكتب النفيسة فى سائر العلوم و الفنون قد ابادها و شتتها صلاح الدين، فلاجل ذلك اختفى مذهب التشيع الى ان نسى من مصر.[62]
الشيعة فى الدوله المغولية:
قامت الدولة المغولية فى ايران فى سنة 650 الهجرية و موسسها هولاكوخان، ثم استمرت الى ان انهارت بوفاة السلطان ابى سعيد سنة 736، وقد قضى هولاكوخان على بنى العباس فى هجومه على العراق فى المرة الثانية، فاعطى الحرية للمذاهب ومنها مذهب البيت فى البلاد التى تحت نفوذه كلها، كان هولاكوخان يحترم الاديان و اربابها، ويعظم اهل العم و الصلاح، و بعبارة اخرى يمكن ان يقال ان محارباته غير منبعثه من دوافع دينية، لذا اصبحت الاديان كلها حرة فى كل بلديحاربه و يتغلب عليه ما كانت لدين من الديان عنده ميزة على الاخرى.
وقد وقع الخلاف فى اسلامه، فراى البعض انه اسلم واعتق مذهب التشيع، غير ان القدر المتيقن و المسلم هوانه قد اسلم من ملوك المغول اربعة، وهم، تكودار بن هولاكو وتسمى باحمد و غازان بن ارغون بن بغابن هولاكو تسمى بمحمود، ونيقولاوس اخوغازان وتسمى بمحمد خدابنده، و بهادر خان ابوسعيد، فاما احمد فلم تطل مدة حكومته، و اما غازان فقد نهضت هناك امارات تاريخية دالة على تشيعه، و اما السلطان نيقولاوس محمد خدا بنده، فكان بدء اسلامه على مذهب ابى حنيفة، ولما وفد عليه نظام الدين عبدالملك الشافعى، وهو اعلم وقته من اهل السنة، جعله قاضى القضاة فى جميع ممالكه، وكان يناظر علماء الحنفية بمحضر السلطان فيفلجهم، ولما ظهرت له الغلبة، و حسن للسلطان مذهب الشافعى عدل عن الحنفى اليه ولكنه قد انتهى به الامر الى ان شاهد مناظرة جرت بين العلامة الحلى (726) وقاضى القضاة نظام الدين، فظهرا الفلج على قاضى القضاة، و انتصر العلامة عليه، فاظهر السلطان التشيع من حينه، وامر به الجند واهل الملكه، واجرى فى جميع بلاده مراسيم المذهب الامامى، ولاجل طلبته الف العلامة الحلى كتابه المعروف نهج الحق وكشف الصدق واما ابنه بهادر خان اخر سلاطين المغولية كان على مذهب اهل البيت.
وكان ذلك العصر يفخر بعلماء الشيعة الجهابذة، وهم ال سعيد، ومنهم المحقق صاحب الشرائع (م676) ويحى بن سعيد (م689) مولف كتاب الجامع للشرائع و العلامة الحلى (م726) و ابوه سديد الدين الحلى وابنه فخرالمحققين (م771) السيد ان الشريفان رضى الدين بن طاووس و غياث الدين بن طاووس(م 664) و ابن ميثم البحرانى(م 679ـ699) وكالخواجة نصيرالدين الطوسى (م 672) و قطب الدين الرازى(م 766) و الى كثير سواهم.
و الامر الذى يلفت النظر المدرسة السيارة التى امر السلطان خدابنده بانشائها من اجل العلامة الحلى لاقتراحه، والسبب فى ذلك ان سلاطين المغول كان من عادتهم فى الصيف الاقامة فى مراغة و السلطانية واما فى الشتاء فينزحون الى بغداد و يقيمون فيها لصعوبة الاقامة فى البرد و البرد هذا، ومن جهة اخرى بالعلامة الحلى و يحبه حباجما، فاقترح عليه مصرا على ملازمته و بقائه بجنبه فى السفر و الحضر، و المصلحة لم تقتض رفض ذلك المقترح، وعدم الاجابة الى مراده، فيتيسر حينئذ، تفسير رده تفسير خاطئا يجر عليه وبالا، مع كثرة قالة السوء و الحاقدين عليه، ومن جهة اخرى، لم يرد العلامة ان يكون باجابة السلطان الى البقاء معه، كسائر العلماء من ملازمى ركائب السلطان بحيث ترك كل وظائفه ونشاطاته العلمية من تربية العلماء و اعداد طلاب العلوم بالعدة الكافية، فلاجل الجمع بين هذين الامرين الخطيرين اقترح العلامة الحلى على السلطان ان يامر بانشاء مدرسة سيارة له، حتى يتيسر بذلك للعلامة القيام بوظيفته العلمية الدينية من تربية الطلبة الكثيرين ونشر العقائد و المعارف الامامية.[63]
الشيعة فى عصر الصفوية و العثمانية:
ان الشيعة كانوا يعيشون تلك الظروف السياسية المماثلة تقريبا للاجواء الحاكمة فى عصور الايوبيين و السلجوقيين حتى القرن العاشر الهجرى، ولكن فى طليعة هذا القرن قامت الدولة الصفوية التى اسسها الشاه اسماعيل، فجعل مذهب التشيع مذهب رسميا لدولته، وكانت ايران يومذاك موزعة الاطراف بين عديد من الملوك و الامراء و روساء القبائل، فما ان اتم اسماعيل العام الرابع عشر من عمره، حتى الف جيشا من اتباع ابيه و مريديه، وقاده بنفسه للغزو والفتح، فاستخلصها منهم الواحد تلوالاخر، ابتداء من اردبيل، و وحدها تحت سلطانه، وجعل حكومته الجامعة على اساس المذهب الشيعى.
وبعد وفاة الملك (اسماعيل الصفوى) اعقبه ملوك آخرون من السلالة ذاتها حتى منتصف القرن الثانى عشرالهجرى (1148) وكل من هولاء الملوك كان يويد المذهب الشيعى و يسعى لنشره و ترويجه.
وقد اسست الصفوية الكثيرة من المراكز الدينية و المدارس العلمية الفخمة والحسينيات كما اقدموا على تشييد وتوسيع المشاهد المشرفة، فالذى بعثهم على ذلك مضافا الى فطرتهم الدينية و الروحية هو نفوذ العلماء الكبار، نظير الشيخ محمد بهاء الدين العاملى المعروف بالشيخ البهائى، و السيد مير محمد باقر الداماد، فى قصر السلطنة الصفوية، حيث حملوهم على تعظيم الشعائر المذهبية الدينية، لذا اصبحت اصفهان فى العصر الصفوى مركزا لنشر المعارف الدينيه و تربيت العلماء العظام فى مختلف العلوم العقلية والنقلية، ومن مشاهير علماء الدور الصفوى، السيد الداماد و المحقق الكركى، و الشيخ حسين عبدالصمد، و ولده الشيخ البهائى و العلامة المجلسى و صدر المتالهين و المحقق الاردبيلى. والملا عبدالله اليزدى، و الفيض الكاشانى و غيرهم.[64]
وفى هذا العصر استولت الدولة العثمانية ايضا على معظم البلاد الاسلامية،
وكانوا يناصرون السنة متعصبين، و يقارمون الشيعة و يحاربونهم، حتى بلغ الامر الى
ان استحصل على فتوى من شيوخ السوء بان الشيعة خارجون على الدين يجب قتلهم،
فقد قتل لاجل ذلك السلطان سليم فى الاناضول وحدها اربعين الفا، وقيل سبعين، لالشيىء، الا انهم شيعة، كما قد قتل منا جراء فتوى الشيخ نوح الحنفى بكفر الشيعة
و وجوبهم قتلهم عشرات الالوف من شيعة حلب، التى لم يبق فيها شيعى واحد، وكان التشيع فيها راسخا و منتشرا، منذ كانت حلب عاصمة الدولة الحمدانية، و قد نشاء فى
حلب منذ القديم عديد من كبار العلماء وائمة الفقه كبنى زهرة و ال ابى جرادة و غيرهم
ممن جاء ذكرهم فى كتب السير و التراجم بخاصة كتاب امل الامل و من الذين قد قتلهم العثمانيون من اعلام الامامية الشهيد الثانى.
كما قد اقصوا الشيعة عن جميع وظائف الدولة كبيرها و صغيرها، حتى الوظائف الدينية، ومنعوهم من ممارسة شعائرهم المذهبية فى بلاد الشام و غيرها التى تكثر فيها السنة، ويقل عدد الشيعة، و امتد تنكيل العثمانيين بالشيعة طوال سيطرتهم على العرب التى دامت اربعة قرون من سنة 1516 الى 1918.[65]
ثم ظلت بعد ذلك و دامت هذه الظروف القاسية تحكم على الشيعة، وساد فى ايران مذهب التشيع كمذهب رسمى للدولة، وما حدث فيها جدال و نزاع، ولكن فى سائر المملكات الاسلامية التى يسيطرها و يحكمها اتباع السنة، و خاصة بتلك المناطق التى للوهابية نفوذ فيها، كانت الشيعة فى مضايعة و حرج شديد، ولكن انتصار الثورة الاسلامية فى ايران ـ ولله الحمد ـ و الارشا دات و السياسات الحكيمة التى مارسها زعيم الثورة الاسلامية ذلك البطل فى التاريخ المعاصر السيد الامام الخمينى (رضوان الله تعالى عليه) مما كشفت الحقائق الكثيرة و كسحت كل تلك الشبهات عن الشيعة وعقائدها، المغروسة فى اذهان الناس وضمائرهم منذ قديم الايام، فازداد يوما بعد يوم عدد التباعه وانتشر المذهب رويدا رويدا فى سائر بقاع العالم، مهماسعت ايادى الاستعمار ان تمارس دائما سياستها المنفورة والمشئومة ببث بذور التفرقة فرّق تسد و ايجاد الجو العدائى السقيم بين صفوف المسلمين، ومكروا ومكروالله و الله خير الماكرين.
ب) ظهور المفكرين الاجاء و الحتكاك الكلام بالفلسفة:
ان لتطلع المفكرين البارعين و النابغين على وجه تاريخ المعرفة البشرية دورا عظيما وسهما كبيرا فى تطور العلم، فقد تمتعوا هولاء على ضوء افكارهم الثاقبة و عبقرياتهم الفائقة بظروف اجتماعية و سياسية مناسبة على وجه مرغوب و مطلوب واحدثوا و نهضة فى العلوم البشرية، و قد سجل التاريخ اسماء العديد الكثير من المفكرين العباقرة، ولايسعنا المقام لذكر جميعها.
ومن المفكريين الغربيين الذين يعرفون باالابتكار و الابداع و ايجاد التحول فى مجال المعرفة و الحكمة هم: روجر بايكون الانكليزى (فى القرن الثالث عشر الميلادى) وليوناردو دافينش الايطالى.(فى القرن الخامس عشر الميلادى)، و كوبر نيكوس العالم الفلكى البولندى (و هو موسس علم الهيئة الحديثة) و كبلرجوهانس (احد موسس علم الفلك الحديث والكاشف للحركات الكوكبية) و غاليليو غاليلى الايطالى (موسس علم الطبيعة و علم النجوم)، وفرنسيس بايكون الانكليزى (المعاصر للشاه عباس الكبير) و رينيه ديكارت الفرنسى، ولايبنتز الالمانى (فى قرن السابع عشر) و نيوتن الانكليزى (الكاشف لقانوون الجاذبية العام وقوانين الحركة) و كنت الالمانى (فى القرن الثامن عشر الميلادى) و اوغوست كونت الفرنسى (فى القرن التاسع عشر) و وليام جيمس الاميريكى (فى القرن التاسع عشر)، وهنرى برغسون الفرنسى (1859 ـ 1941 م) و غيرهم. و كذافى الاوساط الاسلامية فقد تطلعت المفكرون العباقرة الذين لهم دور كبير و خدمة جليلة فى تطور العلوم العقلية والنقلية وتكاملها و هم امثال: الفارابى و الكندى، و الرئيس ابن سينا، والغزالى، وابن الرشد، والسهروردى، وزكريا الرازى، و محمدبن موسى الخوارزمى، والمحدث الكلينى، وابن مسكويه، و الشيخ الطوسى، و المحقق الحلى، و الشهيدين الاول والثانى والخواجه نصيرالدين الطوسى، و العلامة الحلى و الشيخ البهائى و السيد الداماد، و صدر المتالهين، والفيض الكاشانى و الشيخ الانصارى.
لاريب ان للشيعة عددا كبيرا من العلماء الاعلام فى علم الكلام و سنتعرف على عده منهم لاحقا، غير ان البعض منهم كانوا مصدرا لتحول هذا الفن و تطوره نحو النضج والكمال، و فى طليعة هولاء الشيخ المفيد (م 413 هجرى) وله ذهن وقّاد وفكر نير و ذكاء ثائر وفطانة فائقة، فقد قام بتبيين معالم عقيدة الشيعة، و تقويتها و ترويجها، و دفع شبهات المخالفين، فكما انه قد قام بتربية التلامذة النبلاء النبغاء كالسيد المرتضى (م 436) و الشيخ الطوسى (م460) والعلامة الكراجكى،(م 449)، فقد ترك اثارا كلامية قيمة ايضا التى تعتبر من الذخائر و المصادر القيمة لعلم الكلام.
و الدور الاخر الذى لعبه الشيخ المفيد الذى لايقل اهمية عما سبق فى علم الكلام، هو احياء المنهج العقلى، و تخطئة الاخبارية و محاربتها، و بنقوضة المستدلة القوية على الاراء الكلامية لاستاذه الشيخ الصدوق (م 381) فى كتاب تصحيح الاعتقاد فقد اشادوا حكم المنهج الفكرى العقلى فى المعارف الدينية، و جديربنا ان نذكر فى هذا المقام بعض النماذج من اعتراضاته على الشيخ الصدوق(رحمه الله):
1ـ قال فى المشيئة و الارادة: الذى ذكره الشيخ ابوجعفر(رحمه الله) فى هذا الباب لايحصل و معانيه تختلف و تتناقض، و السبب فى ذلك انه عمل على ظواهر الاحاديث المختلفة و لم يكن ممن يرى النظر فيميز بين الحق منها و الباطل يعمل على ما يوجب الحجة…[66]
2ـ قال فى القضاء و القدر: عمل (عول) ابوجعفر فى هذا الباب على احاديث شواذ لها وجوه يعرفها العلماء متى صحت و ثبت اسنادها ولم يقل فيه قولا محصلا، و قد كان ينبغى له لما لم يكن يعرف للقضاء معنى، ان يهمل الكلام فيه.[67]
3ـ قال فى النفوس و الارواح: كلام ابى جعفر فى النفس و الروح على مذهب الحدس دون التحقيق، ولو اقتصر على الاخبار ولم يتعاط ذكر معانيها كان اسلم له من الدخول فى باب يضيق عنه سلوكه [68] ثم جاء بعد جيل الشيخ المفيد، متكلم امامى بارع، فقد كان مبدا اللتحول فى الكلام الامالى، و ذلك الخواجه نصير الدين الطوسى (م / 672) فدور الخواجة فى الكلام الامامية لاينفك عن تحول و تطور الكلام المتولد من التقاء الفلسفة والكلام، ونفوذ المصطلحات و القواعد الفلسفية فى الكلام، و يقول الشهيد المطهرى فى وصف دور الخواجة فى الكلام:
لقد جعل الخواجه نصير الدين الطوسى الفيلسوف الحكيم المتبحر بتاليفه كتاب تجريد الاعتقاد متنامن اتقن المتون الكلامية، ثم مامن متكلم شيعى اوسنى جاء بعد عصر التجريد الاواهتم بهذا المتن، وقد قرب الخواجه نصير الدين الكلام كثيرا من المنهج الجدلى الى المنتهج البرهانى.
[1]. لاحظ الامالى، للسيد المرتضى ج 1 ص 110 ـ 116 و شرح الاصول الخمسة للقاضى عبدالجبار المعتزلى ص 138 ـ 139 و الفرق بين الفرق، للعبد القاهر البغدادى ص 118. و الملل و النحل للشهرستانى ج 1 ص 48.
[2]. اوائل المقالات، الطبع الثانى، ص 43 ـ 45.
[3]. فرق الشيعة، الطبعة الرابعة، سنة 1388 ص 24.
[4]. الانتصار، ص 5.
[5]. سير فلسفه در ايران، ص 44 ـ 45 (فارسى).
[6]. ضحى الاسلام، ج 3، ص 15 ـ 17. ط، دارالكتاب العربى.
[7]. اما معبد فقد قتله عبدالملك بن مروان اوالحجاج، و غيلان قتله هشام بن عبدالملك، الفرق بين الفرق (الحاشية) ط، دارالمعرفة، بيروت، ص 18 ـ 19.
[8]. الف) وليدبن يزيد بن عبدالملك، ب) يزيدبن وليد، ج) ابراهيم بن وليد، و قيل، تحيز يزيد بن وليد الى نظرية القدرية.
[9]. تاريخ الخلفاء، للسيوطى، ص 250 ـ 255.
[10]. طبقات المعتزلة، ص 56.
[11]. تاريخ الخلفاء، ص 388.
[12]. ضحى الاسلام، 3 / 207 ـ 202.
[13]. سير فلسفه در ايران، تاليف اقبال اللاهورى، ص 57.
[14]. الملل و النحل، ط بيروت، دار المعرفه، ج 1، ص 32.
[15]. تاريخ فلسفه اسلامى، تاليف هنرى كوربن، ص 158 (ترجم بالفارسيه).
[16]. تاريخ الفلسفه، العربيه،ج 1 ص 177 ، منشورات دارالجيل، بيروت لبنان، تاليف حنا، الفاخوزى و الدكتور خليل الجر.
[17]. المصدر السابق ص 178.
[18]. آشنايى با علوم اسلامى، كلام. عرفان، ص 51 (فارسى).
[19]. تاريخ فلسفه اسلامى، ص 165، (الفارسى).
[20]. تاريخ الفلسفه العربية، ج 2 ص 268.
[21]. المصدر السابق ج 1 ص 185.
[22]. مقدمه ابن خلدون، ط دارالقلم ص 465.
[23]. الغزالى بتشديد الزاى نسبة الى غزال. لان اباه يعيش من غزال الصوف و يبيع ما يغزله فى دكان بسوق الصوافين، و بتخفيف الزاى، نسبة الى غزالة و هى قرية من قرى طوس، فيجوز، على هذا اطلاق الغزالى مخففة الزاى و مشددة الزاى على ابى حامد، تاريخ الفلسفه العربيه، ج2 ص238.
[24]. و قد اشار اليه الشهيد المطهرى لمناسبة فى سلسلة دروسه الفلسفيه فقال: كان السيد الشريف رجلا محققا بواقع المعنى بيدان عاره ونقصانه انه كثيرا ما يكتب الحواشى، الا ان حواشيه حقا تحقيقية و دقيقة شرح مبسوط منظومه (فارسى) ج 1 ص 274.
[25]. و ينبغى التنبيه و على ان اكثر مطالب هذا الفصل خلاصة مقتبسة من قسم الماتريدية من كتاب بحوث فى الملل و النحل للشيخ العلامة السبحانى (دام ظله و شكرالله سعيه الجميل).
[26]. تاريخ المذاهب الاسلامية، ص 167، ط، دارالفكر.
[27]. شرح العقائد الاصفهانية، ص 157 ـ 161، ط، دارالكتب الحديثة، و الشارح ابوالعباس تقى الدين احمدبن عبدالحليم الحرانى، نسبه الى (حران) بلدة بالشام و ولد بحران فى عاشر ربيع الاول 666 هجرى ومتن الكتاب تاليف الشيخ شمس الدين محمدبن الاصفهانى الامام المتكلم المشهور الذى قيل انه لم يدخل الى الديار المصرية احد من رووس علماء الكلام مثله ـ علم ما قاله ابن تيمية ص 3 من الكتاب.
[28]. شرح المقاصد، ج 4 ص 293.
[29]. شرح العقايد النسفية، ص 164 و متن الكتاب تاليف نجم الدين ابى حفص النسفى(م 537 هجرى) من الاعلام الماتريدية.
[30]. اشارات المرام، ص 54.
[31]. لا حظ ـ فى هذا المضمار ـ كتاب تلخيص المحصل، ط دارالوضواء ص 342، و گوهر مراد ط وزراة الثقافة و الارشاد الاسلامى ص 348 ـ 350.
[32]. مقدمة اشارات المرام، ص 605.
[33]. الفصول المختارة، ص 261.
[34]. تلخيص المحصل، ص 413.
[35]. لاحظ، الملل و النحل، شهرستانى، ج 1 ص 154 ـ 157 و تلخيص المحصل، ص416،417،و الشيعة فى الاسلام.
[36]. يعنى من كان مستجمعا لما اعتبروه من شرائط الامامة فهو امام.
[37]. تلخيص المحصل. ط دارالاضواء، ص 417.
[38]. قواعد العقائد، المطبوع بضميمة تلخيص المحصل، ص 461.
[39]. الفصول المختاره للسيد المرتضى، فرق الشيعة للنوبختى.
[40]. الشيعة فى الاسلام، للعلامة الطباطبائى.
[41]. الميزان، ج 5 ص 278.
[42]. نهج البلاغه، قصار الحكم رقم 470.
[43]. شرح ابن ابى الحديد، ج 20 ص 227.
[44]. نهج البلاغة، الخطبة 290.
[45]. فهرست ابن نديم، الفن الثانى من المقالة الخامسة.
[46]. رجال النجاشى، رقم الترجمة 659.
[47]. آشنائى با علوم اسلامى، كلام، عرفان، ص 54.
[48]. فى رحاب نهج البلاغه، القسم الثانى، ص 67.
[49]. تاريخ الخلفاء، ص 261.
[50]. الشيعة و الحاكمون، تاليف محمد جواد مغنية ص 149.
[51]. راجع تاريخ المسعودى، ج 3 ص 310، و تاريخ ابن الاثير، ج 4 ص 375
[52]. تاريخ الشيعة، للشيخ محمد حسين المظفرى ص 57.
[53]. وفى سنة (236) امر بهدم قبر الحسين، وهدم ما حوله من الدور،وان يعمل مزارع، وضع الناس من زيارته، وخرب وبقى صحراء… تاريخ الخلفاء للسيوطى ص 347.
[54]. تاريخ التمدن الاسلامى، ج 3 ص 167.
[55]. تاريخ الخلفاء، ص 369.
[56]. ويسمى الفاطميون بالالعبيديين ايضا نسبة الى عبيدالله المهدى اول خلفائهم ببلد المغرب، فقد اعتلى منصة الحكومة سنة 296 الهجرية.
[57]. تاريخ الخلفاء، ص 401 ـ 402.
[58]. تاريخ الشيعة، ص 183 ـ191. و الشيعة و التشيع، ص 160 ـ 176.
[59]. تاريخ الشيعة، ص 139 ـ 141.
[60]. الشيعة و التشيع، ص 177 ـ 188.
[61]. تاريخ التمدن الاسلامى، لجرجى زيدان، ج 4 ص 175 ـ 179.
[62]. لاحظ، تاريخ الشيعة، ص 192 ـ194، و الشيعة و الحاكمون، ص 190 ـ 193، نقلا عن المقريزى فى خططه ج 2 و 3، و الازهر فى الف عام ج 1، و تاريخ ابن الاثير، ج 9، و الاعيان الشيعة، ج1.
[63]. لاحظ تاريخ الشيعة، ص 214 ـ219، و مقدمة كتاب الالفين بقلم العلامة السيد محمد مهدى الخراسانى.25 ـ 26.
[64]. تاريخ الشيعة، ص 220، 224، الشيعة فى الاسلام و الشيعة و التشيع ص 190 ـ 198.
[65]. الشيعة و الحاكمون، ص 194 ـ 197.
[66]. تصحيح الاعتقاد بصواب الانتقاد، ط منشورات الشريف الرضى بقم ص 34.
[67]. المصدر السابق ص 39.
[68]. المصدر السابق ص 63.